أدركت شأوك فاتق الأسواء

أَدرَكتَ شَأوَكَ فاتَّقِ الأَسواءَ

فالشيبُ حَلَّ بِلِمَّةٍ سَوداءَ

لا حَبَّذا ضَيفٌ أَلَمَّ بعارضي

بَسَمَت لهُ الآجالُ لَمّا جاءَ

هَبَّت بفُلكِ جُسومنا ريحُ العفا

سَحَراً وكان هُبوبها نَكْباءَ

وَطَمَت بِحارُ الحين من عَصَفاتِها

فَسَرت وكان مَقَرُّها الأَحياءَ

ثَغَرَت لها الأَحداثُ خُلجاناً وَقد

ضَمَّ البَنونَ برَمسِها الآباءَ

وغَدَت بها رُمَمُ الرُفاتِ كَأَنَّها

سِلكٌ يُفَضُّ بقاعةٍ وَعساءَ

فالعُمرُ مِضمارٌ وَأجسامُ الورى

أَنضاؤُهُ هل تَعرِفُ الإِنضاءَ

وتَردُّدُ الأَنفاس في لَهَواتنا

يُغري المنازلَ بُكرَةً ومساءَ

فالدهرُ ينثُرُنا فُرادى مثلما

مرُّ الحواصِب يَنثُرُ الحَصباءَ

دُنياكَ يا هذا تُريك عجائِباً

إذ كان ظِئرُ جَنينها الأَسواءَ

النفس قد علِقَت بجسمٍ مرَّةً

فلذاك لم تَهجُر حِماهُ جَفاءَ

فدنت وأَكسبها النِفارَ دُنُوُّها

فاِعجَب لِعودٍ لا يريدُ لِحاءَ

لمّا غوَت حَوّاءُ أَغوت آدماً

فكسا بنيهِ الرُزءَ والبلواءَ

وقضى مُناهُ الضِدُّ منهُ بمَكرهِ

وَقَضى فأَودَعَ بينَنا الإِمضاءَ

مُتَرَقِّبينَ وُرودَ كَأس حُتوفنا

فنبيتُ عند مَطافهِ نُدماءَ

وإذا تَساقينا بهِ عن إِمرَةٍ

مَحتومةٍ نُسقى بِلىً وبلاءَ

وخُروجُنا بالرَغمِ كَرهاً مُجبَرٌ

وَدَواؤُنا يُلقي إلينا الداءَ

وَشَقاؤُنا يُفضي إلى أَسقامِنا

وَبقاؤُنا يُبدي لنا الإعفاءَ

كم عَفَّتِ البَيداءُ قبلَكَ أُمَّةً

كادت تَسُدُّ بجَمعها البطحاءَ

أَينَ الأَكاسِرَةُ الَّذين تَوَطَّدَت

بهمِ الصَياصي واقتنوا الأَرجاءَ

أينَ القَياصِرَةُ الذين تجهَّموا

خُطَطَ الخُطوب وأرجَفوا الغَبراءَ

أَينَ ابن داوُدَ الذي فاقَ الورى

عِلماً وَحَزماً سُؤدُداً وإِباءَ

أَينَ الذي ساد المُلوكَ اسكَندَرُ ال

نَدبُ الحُلاحِلُ وارتقى العَلياءَ

أَينَ الذي شادَ الخَوَرنقَ ثُمَّ أَي

نَ القَرْمُ تيمورُ الذي قد ساءَ

أَينَ الذي حازَ النَباهَة والعُلا

شَرَفاً وسارَ السيرَةَ الخُيَلاءَ

أَينَ الذي وَطِئَ الرِقابَ تَكَبُّراً

فَغَدَت أَعِنَّتُها لَهُ إيطاءَ

أَينَ الذي كانت تَمورُ بجيشه ال

أَرضونَ طُرّاً رَهبةً وَحَياءَ

أَينَ الذي أَحى الزَمانُ رقيقَهُ

قَسراً وكانَ الغُرَّةَ الغَرّاءَ

أَينَ الملوك الصائنونَ ثُغورَهم

أَينَ الجُيوشُ الرافِعونَ لِواءَ

أَينَ اصطِكاكُ سُيوفِهِم وقسيِّهم

من كُلِّ شاكٍ يَقهَرُ الأَعداءَ

كالشوسِ في أَجَمِ الرماحِ رَوابضاً

قَد قارَنَت أَبطالُها الجوزاءَ

فَيَرَون صَهْواتِ الجِيادِ كأَنها

فَلَكٌ يَدورُ بهم ضُحىً ومساءَ

عَصَفَت بهم ريحُ المَنونِ فَأَصبَحوا

جُثَثاً بلا أَرواحِها خَرساءَ

طافَت بهم أَيدي الحِمامِ بأَكؤُسٍ

من خَمرَةٍ جاءَتكَ عَن حَوّاءَ

فَثوَوا على البَطحاءِ صَرعى سُدَّراً

سَكِروا فكانوا بحَسوِها نُدَماءَ

لَعِبَت بِهِم أَيدي سَبا فتَفرَّقوا

فِرَقاً يَضُمُّ قريبُها البُعداءَ

وجَرَت على آثارِهم أَجيالُهم

يَتَداركونَ بَقِيَّةً شَنعاءَ

يتَراكَضوانَ لغايةٍ حتى إِذا

ما شارفوها أَردفوا الأحياءَ

فكَبَت بهم خيلُ الحياةِ بشَوطها

وَجَرَت بِهم نُجُبُ المماتِ سَواءَ

قد كانَ بطنُ الأَرضِ يحسُدُ ظَهرَها

بِهِمِ ويوسعُ فيهمِ الإِغراءَ

فَثنى الزَمانُ حَسودَهم مَحسودَهم

كَسَجَنجَلٍ إذ تَعكِسُ الأَشياءَ

فتَرى بعينِكَ في مَواقع جِرمها

شَخصاً وأَنتَ بِضِمنِها تَتَراأى

كيف المزارُ وقد نأَوا عن ساحةٍ

كانَت بهم تَزهو سَناً وَسناءَ

أَضحَوا رهائنَ دهرِهم إِذ أَحرزوا

منهُ السُرورَ وأَنجَزوا الإِمضاءَ

شهِدَ الكتابُ عليهمِ وسِجِلُّهُ

مَوتاً تذوقُ وتُسلَبُ الحوباءَ

وَيحاً لِمن وافاهُ طالبُ دَينهِ

ورآهُ في عِبءِ الخطا قد باءَ

يَجزيهِ كالرَجلِ المُسيءِ بِفِعلِهِ

ويُبيدُ منهُ الأَمنَ والإِرعاءَ

حَتّامَ يا هذا تبيتُ مُعَسعِساً

في مَهمَهٍ لا تَرتضيهِ فِناءَ

فكأنك العشواءُ تخبطُ في الدجى

مُتسكّعاً تتوقّعُ الإفضاءَ

مُتَسَربِلاً بإِهابِ دَيجورِ الأَسى

مُتَلفِّعاً بمَساءَةٍ دَكناءَ

هذا وقد وَفَدَت عليكَ نجائِبُ ال

آجالِ مُسرِعَةً وكُنَّ بِطاءَ

وَبَدَت شُموسُكَ في مَغارِبِ أُفقها

وَصَباحُك الوَضّاحُ عادَ مَساءَ

وتَعاكَسَت فيكَ القضايا فاعتبر

من صِدقِها الإيجابَ والإِغراءَ

وَخِدِ المَسيرَ الجِدَّ في جَدَدِ التُقى

بَمناسِمٍ تَذَرُ السَمومَ رُخاءَ

لَهفي على زَمَنٍ كَسوتُ أَديمَهُ

إِثماً يحيلُ الوَشيَ مِنهُ عَفاءَ

كم بِتُّ أَنزِعُ فيهِ قَوسَ ضَلالَتي

عن ساعدٍ أُصمي بهِ اللأواءَ

وَنَصبتُ أَحشائي على بُعدِ المدى

غَرَضاً فكُنتُ لِمَصرَعي إيماءَ

حَتّى رَجَعتُ وفيَّ أَصرُ كِنانَتي

نُثِلَت وَأَصمَى سَهمُها الأَحشاءَ

وَتَمَزَّقَت من قبلِ تَمزيقِ الحَشى

نَفسٌ رَأَت غُصَصَ المَنونِ ظِباءَ

إِن كان شَخصي عن ذُنوبي سائِراً

قدماً فَلي قَلبٌ يَحِنُّ وَراءَ

فَلِذاكَ عُجتُ وفي فُؤادي صَبوةٌ

تَلهو وشوقٌ لا يَمَلُّ شَقاءَ

كم ليلةٍ قد بِتُّ أَفتُقُ رَتقَها

بنَقائِصٍ لا تَألَفُ الرَفّاءَ

وَأَحالَ صِبغَ الليلِ صِبغُ فَعائلي

فظَلامُهُ من دَجنِها قد فاءَ

وكرعتُ فيهِ ماءَ عيشٍ آجناً

أَضحى الفُؤادُ بسُؤرهِ يتقاءى

فغَدَوتُ أوسِعُهُ إِقامةَ تَوبَةٍ

وَأَشارَ يوسِعُني أَسىً وبُكاءَ

يا رَبِّ هَب لي تَوبَةً أَمحو بها

نَصّاً غدا مَضمونُهُ الأَسواءَ

يا ربِّ تَوبَةَ ناصِحٍ مُتَنَصِّلٍ

يَذري الدُموعَ سَخينةً حَرّاءَ

يا رَبِّ إِني في حِماكَ مُوَلَّهٌ

وحِماكَ رَبّي يُنجدُ الضُعَفاءَ

يا رَبِّ قد وَخدَت إِليكَ مَطيَّتي

سَحَراً وزدتٌّ بحثِّها الإِغراءَ

يا رَبِّ عُدني عِندَ مَوتي إنَّني

سَوءٌ وعِدني بَعدَها العَلياءَ

يا ربِّ أُشدُد فيكَ أَزري واكفِني

ضُرّاً أَثارَ عَلى ضَنائي الداءَ

يا ربِّ قد عَجَزَ الطبيبُ فَداوِني

سَقياً لداءٍ كُنتَ فيهِ دَواءَ

يا رَبِّ قد قَرُبَ الرَحيلُ وهاجني

برقٌ بأَكنافِ الحِمى يَتَراءى

مُستَشفِعاً في زَلَّتي تِلكَ التي

رأَتِ الأَنامَ بفَضلِها الإِرضاءَ

تلكَ التي وَطِئَت بأَخمصِ رِجلِها

فَلَكَ السُعودِ وآسَتِ الضَرّاءِ

مَلَأَت بُطونَ الأَرض أَمناً وافِراً

عندَ اِمتِلاءِ حَشائها نَعماءَ

وتَوَسَّدَت شَرَفَ الأَرائِك ليلةً

وَفَدَ المُبشِّرُ يَحمِلُ البُشراءَ

هذا زَعيمُ الرُسلِ يَهتِفُ مُنذراً

بأَلوكَةٍ تَذرُ الحضيضَ سماءَ

أهدى السلامُ عليكِ يا فخرَ الورى

إذ كُنتِ أَنتِ مريمَ العَذراءَ

يا عَرشَ مجد اللَهِ يا شَمسَ الهُدى

قد مزَّقت ببزوغِها الظَلماءَ

وافيتُها والعَينُ شَكرى بالدِما

أَسَفاً كأَنَّ بطَرفِها الأَقذاءَ

إِن كانَ ذَنبي يَقتَضي لي شافعاً

حَقّاً ففَضلُكِ يَجمَعُ الشُفَعاءَ

هَب يا عَذولي أَنَّني لكَ سامعٌ

ما عُذرُ شَيبٍ يَنسخُ الأَفياءَ

فَنَأى الشَبابُ وعادني زَمنُ الضنى

وكأَنَّني في طَيِّهِ أَتراءى

وبدا لسانُ الشيب نَحوي مُنشِداً

أَدرَكتَ شَأوكَ فاتَّقِ الأَسواءَ