فذلكة الرواة

ومما نستخلصه من توارد الروايات المختلفة، المتناقضة، التي هي أقرب إلى الخرافة الساذجة منها إلى النصوص الموثقة، والتي تبدو في معظمها ارتجالاً بيِّناً اخترعه حَكّاؤون يَصْدُرون عن ضَعفِ صلةٍ بالتاريخ وفقرٍ في المصادر من جهة، أو أنهم يتميزون بخفّةٍ لا تليق بجدية الشخصية الأدبية وجذرها التاريخي من جهة أخرى.

ومثل هكذا سلوك سوف لن يعبأ بتماسك التاريخ في النص وموضوعيته وصدقه. بل غالباً ما يلجأ إلى اختراع الأشعار ونقلها على لسان الشخصيات من أجل تلفيق عناصر رواياته بنصوصٍ توحي بورودها على لسان الشاعر. وهذا ما لاحظناه في غير قصيدةٍ من المنسوب إلى طرفة والمتلمس. حيث تراكمتْ أشعارٌ تؤثث حكاياتٍ مفككةٍ تسردها الروايات المتواترة، ويتداولها الرواة، كما لو أنها الحقيقة الناجزة في تاريخ الشاعر وسيرته. في حين أن هذه الروايات، التي تشي بالتناقض وعدم الانسجام، لا مرجع تاريخياً موثوقاً تصدر عنه، ولا معلومة أكيدة تدعمها، سوى تلك العنعنات التي تتناسل وتتناسخ بأقوالٍ على ألْسِنةٍ ركيكةٍ واهية الحجة، أمتعُ منها أقاصيصُ العجائز الخرافية.

من بين مجموع ما وصلنا من أشعارٍ وروايات عن طرفة، ثمة الكثير الموضوع لغاية واحدة فحسب، هو أن يكون كل ذلك سنداً لفصول ووقائع مختلقة ضعيفة لا مصداقية لها، عمل الرواة على اختراعها لاستكمال مروياتهم الخيالية المتصلة بالأسطورة المرتجلة. أكثر من هذا، سنجد بعض الرواة قد اخترعوا شخصيات ذات تفاصيل أسطورية ساذجة للغاية ذاتها. وليس أدل على ذلك من شخصية المتلمس التي سوف يحيطُ بها الشكُّ والقلقُ في غير موقع وفي أكثر من جهة. فمثلما كان لامرئ القيس خالٌ اسمه «المهلهل»، أظهرت الرواياتُ صلته بالقصص الشعبية ليكون جزءاً من تراث الأساطير الشعبية المشهورة (الزير سالم)، سوف نصادف، منذ اللحظة الأولى لحكاية طرفة، شخصية خاله المتلمس التي سوف تتشابه مع شخصية «المهلهل»، مع بعض الاختلاف في درجة الأسطورة. سوف نرى، مثلاً، المتلمس يعود في النهاية إلى بلدته «بُصرى» بعد أن هجرها سنوات طويلة، ليجد حبيبته، ليلةَ وصوله بالذات، تتزوج غيرَه، ولنجد أنفسنا إزاء مشهد درامي بالغ السذاجة مستخفاً بعقل القارئ، من جانبه التاريخي، إذ نقرأ شعراً يتبادله المتلمس مع حبيبته وزوجها الوشيك، الذي سيتنازل بدوره عن زوجته لكي تكتمل الحكاية بلقاء الحبيبة وحبيبها المتلمس الذي ظهر فجأة في ذروة الحدث. مثل هذا المشهد من شأنه أن يدفعنا إلى عدم الاستهانة بالتوقف المتشكك الذي ساقه بعض المؤرخين المتنبهين حول أصل شخصية المتلمس برمتها. حيث لم تكن هذه الشخصية طوال سيرة طرفة سوى عبء موضوعي وعنصر دخيل في حياة الشاعر، ومدعاة لمواقف الحرج المركّب على الصعيدين التاريخي والأدبي، منذ لحظة الشكّ الأولى في حقيقة مرافقة طرفة للمتلمس إلى بلاط الحيرة، حتى الرسالة المزعومة التي ارتبطت شهرتها بالمتلمس وليس بطرفة.