فليحضر التاريخ

فليحضرِ التاريخُ فوراً

وليُلغِ موعده مع الحرب التي ستجيء أو

مع أيّ سلمٍ مفترضْ

ومع القضايا العالقات بحبره وحرابه

وإذا تذرَّعَ بانشغالٍ أو مرضْ

وإذا اعترضْ

سأجرُّهُ بيدي إلى غرف المعيشة بيننا

وأديرُ سهرَتَهُ أنا

ليرى لأولِ مرةٍ ولداً له وجهٌ، له صوتٌ

له جسدٌ حقيقيٌّ، له إسمٌ ثلاثيُّ

يمارس يومَهُ العاديَّ بين يديه،

سوف أُهَيِّئُ الأقلام والأوراق:

أُكتبْ ما ترى.

سترى انتظاري

لا لمعجزةٍ،

(فإن المعجزات فضيحةٌ للعقل)

لا لتفاهة الجنّيّ والمصباح،

(هذا الكامل المنفوخ أعجزُ من هشاشتنا)

ولا للنصر في غزوٍ وراء البحر،

(إني لا بوارجَ لي)،

ولكني انتظرتُ هنا، طويلاً

بين جدراني البسيطة

فاكتب الآن انتظاري.

قل هنا رجلٌ يقيمُ بالانتظار

ولستُ أدري ما به.

سترى هنا أمّاً تُمَشِّطُ شعرَ طفلتها

لترسِلَها إلى جرس الصباح المدرسيّ

ترنُّ حسناً في حديقة عمرها، وترنُّ،

لا أحداثَ، لا جنرالَ، لا آثارَ مجزرةٍ،

فقط أمٌّ مع ابنتها

فدَوِّنْ مشطَها وجديلةَ البنت الصغيرةِ

في دفاتركَ التي

انشغلت بأحذية الممالك عن وجوه الناس.

صَوِّرْ ياسمينتها الوحيدةَ فوق دفترها

ورائحةَ الصباح

على طريق السروِ والنحو المُبَسَّطِ

ثم تابع وقعَ خطوتها على حذر الرصيف

وذعرَ جدّتها من الأخبارِ

إذ أخفتهُ في منديلها القطنيّ

تعقدهُ وتفردُهُ بكفّيها بلا نطقٍ

ودوّن أن بنتاً من بلادي وهي خائفةٌ تماماً

سوف تنسى أن تخافْ

لا تندهشْ،

واكتب كذلك خوفَنا إن رنَّ هاتفُنا

ولا تتكهّن الأسبابَ، أنت مدبّرُ الأسباب،

فاكتب أننا نخشى رنينَ الهاتف الليليّ،

هل فكّرتَ يوماً أن هذا لم يُدَوَّنْ في كتابكَ؟

أم تراه من اختصاص الشعر والشعراء؟

لا يا سيّدي، فاكتبه،

وليكنْ اختصاصَكَ منذ هذا اليوم

فالدنيا هواجسنا البسيطةُ لا طبولكَ

أو كبائركَ التي أدمنتَ صحبتها

وبنتُ مُنمنمات النفس والمكنون في العلنيّ

والمخفيّ في المرئيّ

صافحْ عمّنا بالحطّةِ البيضاء

عاد من المزارع كي يراكَ

وكانُ يصلحُ فجوةً بين السياجِ

وكان يُجري الماءَ في القنوات

بين نشاطه وشرودِ نظرته

وينحتُ بالخزامى مستطيلاً

حول حوضِ قرنفلٍ

ويُقَلِّمُ اللوزَ الذي في ظله دفنَ ابنه

بقميصه المثقوب في الحرب الأخيرة،

كم بكاه وكم بكينا

ثم زوّجَ بنته الكبرى

وظلَّ طوال عام يستعدُّ لعرسها

وبدا كأن العرس فاجأهُ

أطلّت دمعةٌ من جفنه، لمحاً، فأبعدها

فغنّينا على حَذَرٍ

فغنّى.

ربما كرماً يجارينا كما كنّا ظنّنا

ثم غنّى بانسجامٍ واضحٍ

حتى بكينا راقصينَ لبنتِهِ ولإبنِهِ ولَهُ

وما أخفاه عنا، وانسجمنا

والبناتُ نثرنَ ورداً

من سلال القشّ فوق الليل

صار الليل عيداً خالصاً من غير سوءٍ

لم تُؤَرِّخْ مثل هذا ذاتَ يومٍ

تستطيعُ إذا أردتَ

أما سئمتَ أوامرَ الضبّاطِ؟

أصغِ لقصّةٍ من جدةٍ لحفيدها

والنومُ يخطو حافياً حذراً

يمسّهما بطرفِ ردائهِ

ليساعدَ الإثنين

أن يصلا بلاد الصبح مرتاحين

دوِّنْ ما جرى للقلبِ،

دوَّن ما جرى في القلبِ

كُفَّ عن التمشّي في حِداد الناس

تُحصي الحزنَ إحصاءً كما التجّار

واكتبْ عن بناتٍ

لم يُثِرنَ فضولكَ الدمويَّ يوماً

بل نثرنَ الحبَّ حبّاً في حقول خيالهنّ

وكيف تركض لهفةُ امرأةٍ لفتح البابِ

ثم تعودُ خائبةً،

تأخَّرَ،

ثم تصبرُ ساعةً أخرى،

وتصبر ليلةً أخرى:

أيُعقَلُ أن زلزالاً من الصبوات والشهوات فيها

لا مكانَ له لديك؟

إجلس وأجِّلْ وصفَ قائدكَ المُفَضَّلِ،

مائلَ الكتفينِ

فوق خرائط الرمل التي في قبوهِ السريِّ،

يرسم خطَّ تحريك الجنود الذاهبينَ

بلا سؤالٍ

ثم دوِّنْ حيرة الولدين بعد النظرة الأولى

ودوِّنْ رجفةَ الشفتين عند اللمسة الأولى،

ودوِّنْ خشيةَ الجسدين أن

يتسلَّلَ التاريخُ، يا تاريخُ، بينهما

فتجفلُ وردتانِ على المخدّةِ منكَ، واعرفْ

إسمَ بِكرِهِما الذي اختاراه بعد مناقشاتٍ

مع جميع الأهل،

سمعُكَ ليس يألفها

ومثلكَ ليس يعرفُها

فلسنا كالرياضيات، لا تجمعْ ولا تطرحْ

سترى قريباً جاء مضطّرباً يعزّينا،

فلم يسمع سوى بالأمس عن موتِ ابن عمّتنا

أمينِ المعهد الوطنيّ للمسرَحْ

ولا تعجبْ، لنا مسرَحْ،

ولا بلدٌ لما!

وافرحْ.

كما نفرَحْ،

إذا نشروا قصيدة جارنا في

الملحق الأدبيّ بعد غدٍ،

ودَوِّنْ لمعةَ العينين حين ترى حفيداً بيننا

يلهو بنا ونظنّنا نلهو به

وغداً سيكبرُ، هل سيكبرُ؟

والحكايةُ هل تكون كما سيحكيها كتابُكَ؟

أم سنحكيها كما شئنا

وتتركنا نكون رواةَ أنفسنا

أتعرف كيف ترسم بنتنا دبّابةً وأمامَها ولدٌ

يسدُّ طريقَها بسذاجة الكفّين؟

لا تسرَحْ بعيداً في خيالكَ،

إنها قتلتهُ طبعاً

هل سمعتَ طوالَ هذا العمر عن دبّابةٍ تمزَحْ؟

أعدِ الروايةَ من جيوبِ لصوصِها

فروايةُ المظلوم تُسرَقُ كالرغيف وكالمخازن

لا تُعَرِّفنا كأضدادٍ لخصمٍ أنت قد صادقتهُ

وكأننا من قبله شبحٌ بلا جسدٍ

ومثلك لا يرى جسديّة الأجساد إن حزنتْ وإن ضحكت وإن ضجرت وإن فجرت وإن أَرِقت وإن سهرت وإن رقّتْ وإن عبست وإن أملت وإن يئست وإن عقلت وإن جُنّتْ وإن أجراسها رنّتْ بقصةِ حبٍّ انكسرت وإن ضاقت بها الدنيا وإن فُرِجَتْ وإن خرجتْ لقاتلها وما فَزِعَتْ

وأنتَ تنيمُ كل صفاتِها في نصف سطرٍ

ثم ترحل في مدرّعة لتتقن جدول الأرقام،

لسنا نشرة الأخبار

بل لسنا مجرّدَ “خصمهم”

بل نحن “نحن”.

لنا صفاتٌ قبل أن يصلوا، وبعد رحيلهم.

ونصيبُ أحياناً ونخطئُ

أو يقال لنا انتهيتم، ثم نبدأ.

هل أطلتُ عليكَ؟

ترغب في الرحيل الآن، أعرفُ

فلتصاحبكَ السلامةُ

لا تضع نعتاً لتلصقنا عليه

جيداً أو سيئاً فالنعت رأي

لا تقلْ كانوا “جميعاً”، أي شيءٍ

نحن أدرى من نكونْ.

إذهب وفكّر في الذي شاهدت

لا تقدَحْ ولا تمدَحْ ولا تشفق علينا

لا تقل كانوا ضحايا

بل نُضَحّي كي نكونْ.