تصبته ريحا شمأل وجنوب

تصبَّتهُ ريحا شمألٍ وجنُوبِ

فقالَ العِدى ما حظُّهُ بقَريبِ

وشاقتهُ أمواجٌ هناكَ يَزورُها

فيبكي على صخرٍ لها وكثيب

ونثَّرَ آمالاً على كلِّ شاطئٍ

وسارَ كسيرَ القلبِ بينَ شُعوب

فما شعرَت نفسٌ بأحزان عابر

ولا مَسحَت كفٌّ دموعَ كئيب

فَضاعت كما ضاعت جواهرُ شِعرهُ

وأفلاذُ قلبٍ في الأياسِ جَديب

إذا غرَّد العُصفورُ يَدعُو أليفه

وفي النّفسِ والوادي سكونُ غروب

وميَّلتِ الأنسامُ أزهارَ جنّةٍ

كأفئدةٍ خفّاقةٍ لرقيب

وأرخَت عليهِ ليلةُ الصّيفِ سدلَها

مُوشّىً بلوني لامعٍ ورَطيب

تذكّرَ عيشاً بينَ أهليه وانحنى

يُفكِّرُ من أيامِه بريوب

وضاقت عليهِ الأرضُ حيناً وطالما

وَعاها بصدرٍ كالسماءِ رحيب

وقالَ وقد أعَيتهُ كثرةُ سَعيهِ

أهذا ابتِلاءٌ أم جزاءُ ذنوب

أُحِبُّ قريباً إن دعاني أجبتهُ

وليسَ إذا ناديتُه بمُجيب

جَفاني لأنَّ الحرصَ جمّدَ قلبَهُ

وما زلتُ في البلوى أُحبُّ قريبي

تعالَ أخي نمزُج دموعاً أبيَّةً

فكلُّ غريبٍ آنسٌ بغريب

بُلينا فراعَ النّاسَ حُسنُ بلائنا

وربَّ اغترابٍ للشّقاءِ جلوب

كذلكَ تُشقي المرءَ نفسٌ أبيةٌ

وقلبٌ يَرى لذاتهِ بندوب

على الحرِّ أن يلقى الخطوبَ بحزمِه

ففي الخَطبِ تجريبٌ لكلِّ لبيب

أُقابلُ أعدائي وأهوالَ غربتي

بقلبٍ منيرٍ في ظلامِ خطوب

ونفسٍ لنيلِ المجدِ تستعذِبُ الرّدى

كَنسرٍ لأصواتِ الرّعود طروب

فما راعني سيري على الأرضِ تائهاً

ونومي وحيداً مُثقلاً بكروب

وتعريضُ جسمي للمَهالكِ طالباً

دواءً لداءٍ حارَ فيه طبيبي

ولي همّةٌ بينَ الجوانحِ دونها

تحدّرُ سيرٍ واندلاعُ لهيب

على كلِّ حرٍّ دَمعةٌ وتحيّةٌ

إذا كانَ هذا في الجهادِ نصِيبي

وما أنستِ الأسفارُ لا أنس وقفةً

على بحرِنا والشّمسُ عِند مغيب

أُودِّع سوريّا وأُودِعُها الهوَى

وكفّي بكفَّيْ صاحبٍ ونسيب

وأرنو مَشوقاً من خِلالِ مَدامعي

إلى جبلٍ بادي الصخورِ مهيب

ويومَ بَكت أمي الحنونُ وراعَها

دنوٌّ وداعٍ كالحِمامِ رهيب

وقالت بصوتٍ خافتِ متهدّجٍ

ومنها زفيرٌ لاحقٌ بنحيب

بُنيَّ يمين الله هل لك عودةٌ

وداعك هذا يا بنيَّ مذيبي

ألا أنتَ باقٍ آمناً في ربوعنا

فمِثلكَ لم يولد لِصعبِ ركوب

فقلتُ لها والجفنُ يكتمُ عبرةً

سأرجعُ يوماً فاصبري وثقي بي

كطيرٍ تصبّاها ربيعُ بلادِنا

فأطربنا منها حنينُ سروب

أليس التّلاقي بعد نأيٍ ألذّ من

تخلّفِ حبٍّ بالملالِ مَشوب

دعيني أوفِّ المجدَ يا أمِّ حقّهُ

وأقضي شريفاً مثلَ جارِ عَسيب

يلذُّ لفرخِ النسرِ بسطُ جناحهِ

إذا الريحُ حيّت وكرهُ بهبوب

نعم كانَ لي عقدٌ من الحبِّ والمُنى

فضاعَ ولم أظفر ببعضِ حبوب

كما ضاعتِ القبلاتُ في نحرِ غادةٍ

غرورٍ كأمواجِ البحارِ كذوب

فقلتُ لنفسي بعد ذلٍّ وحسرةٍ

كفاكِ ازدراءُ الجاهلينَ فتوبي

أحنُّ إِلى الحمراءِ حناتِ بُلبُلٍ

يُروِّعُه ليلاً دويُّ نعيب

تناثرَ قلبي مثلَ ريشاتهِ على

مُلِمّاتِ دهرٍ بالكرامِ لعوب

فكيف أحبائي الذين تركتُهم

وقد باتَ يُشقيهم ألجّ طلوب

تبعَّثَ من قلبي ضياءُ وجوهِهم

تبعُّثَ نورٍ من خِلالِ ثُقوب

يُطلّونَ منهُ باسماً تِلوَ باسمٍ

فينقى جَبيني بعدَ طولِ قطوب

وتجلو هُمومي بسمةٌ من صبيَّةٍ

تجيءُ الصبا من بُردِها بطيوب

أحبّت غريباً تستفزُّ فؤادَه

بلثغتها في لفظِها لحبيبي

على صدرِها أهوى البنفسجَ ذابلاً

كعينِ لألبابِ الرجالِ خلوب

وأعبدُ منها بينَ دلٍّ وعفةٍ

جمالَ شبابٍ في جلالِ مشيب

وأرعى جبيناً من زنابقِ غيضةٍ

ونحراً عليه من بياضِ حليب

وقد زانهُ عقدٌ من الدرِّ تلتقي

على صَدرِها حبّاتُه بصليب

أقولُ إذا رقّت لحالي وأقبلت

تُسائِلني عن صفرتي وشحوبي

كذاكَ تقاسمنا النحولَ على الهوى

فليسَ تدانينا إذاً بعجيب

أتائهةٌ عجباً بفتيانِ قومها

وراميةٌ فتياننا بعجيب

وُقِيتِ النّوى لا تضحكي من رجالنا

أيأمنُ سَلباً شامتٌ بسليب

صروفُ الليالي فرّقتهم وبدّلت

حياةَ خمولٍ من حياةِ حروب

إذا لبسوا الأطمارَ إنّ صدورهم

لتحمِلُ في البلوى أشدَّ قلوب

وكلُّ جمالِ الشّرقِ في فتياتنا

فإن تُبصري أجفانهنَّ تذوبي

لهنّ عيونٌ حاملاتٌ لِشَمسنا

فأحداقهنَّ السّودُ حَبُّ زبيب

بَعثنَ الهوى موجاً وناراً فلم نكن

لِننجو وقد حاربننا بضروب

فدى العربيّاتِ الحرائر مُهجتي

فهنَّ كروض في الربيعِ خصيب