كأس الخيام

هاتفُ الفجرِ الذي راعَ النجومْ

وأطارَ الليلَ عن آفاقِهَا

لم يَزَلْ يُغري بنا بنتَ الكرومْ

ويُثيرُ الوجدَ في عشاقِهَا

**

صَيْدَحٌ جُنَّ غرامًا بالسَّحَرْ

أنطقتْه لهفةُ الرُّوحِ المشوقْ

مَوثِقُ القلب، وميعادُ النَّظَرْ

مهرجانُ النُّور في عُرس الشروقْ

**

فَرَحُ الجَنَّةِ في ألحانِهِ

وصداهُ في السَّحابِ العابِرِ

أرسَلَ السِّحْرَ على ألوانِهِ

من فمٍ شادٍ، وقلبٍ شاعرِ

**

يَا لَهُ صوتًا من الماضي البعيدْ

رائعَ الإيقاع فتَّان النَّغَمْ

جدَّدَ الأشواقَ باللحن الجديدْ

وهو كالدنيا عَريقٌ في القِدَمْ

**

كم عيونٍ نفضَتْ أحلامَها

حين نادى، غيرَ حُلْمٍ واحدِ

سلسلتْ فيه المُنى أنغامَها

وهي تشدو بالرحيقِ الخالدِ

**

كلَّما لَأْلَأَ في الشرقِ السَّنَا

دقَّتِ البابَ الأكُفُّ الناحلَه

أيُّها الخَمَّارُ! قم وافتحْ لَنَا

واسقِنا، قبل رحيلِ القافِلَه

**

خَمْرَةُ العشاقِ لا زالتْ، وَلَا

جَفَّ من ينبوعها نهرُ الحياهْ

نضبتْ، في قَدَحِ العمرِ، الطِّلا

وهيَ في الأرواح تستهوي الشِّفَاهْ!

**

كم شموسٍ عَبَرَتْ هذا الفضاءْ

وألوفٍ من بدورٍ ونجومْ

والثرى بين ربيعٍ وشتاءْ

ضاحك النُّوَّارِ وهَّاجُ الكرومْ

**

كلُّ عنقودٍ دموعٌ جَمَدَتْ

وقلوبٌ فَنِيَتْ فيها شعاعَا

ما احتواهَا الفجرُ إلَّا اتَّقَدَتْ

جمرةً تذكو حنينًا وَالْتِيَاعَا

**

لو أصابَتْ ريشتَيْهَا وثَبتْ

بجناحين من الشَّوق القديمْ

فاعذرِ الكأسَ إذا ما اضطربتْ

حَبَبًا يَخْفِقُ في كفِّ النديمْ

**

أيُّهَا الخالدُ في الدنيا غرامَا

أينَ نيْسابورُ، والروضُ الأنيقْ؟

أينَ معشوقكَ إبريقًا وجامَا؟

هلْ حَطَمْتَ الكأسَ؟ أم جفَّ الرحيقْ؟

**

هذه الكرمَةُ والوادي الظليلْ

مثلما كانَا، وهذا البلبلُ

حاضرٌ أشْبَهُ بالماضي الجميلْ

لو يُغنِّيهِ المغنِّي الأولُ

**

اليدُ البيضاءُ في كلِّ الغصونْ

زهرةٌ تَنْدَى، ونَوْرٌ يُشرقُ

والثرى من نَفَسِ الرُّوحِ الحنونْ

مهجةٌ تهفو، وقلبٌ يخفقُ

**

كم تشهَّيتَ الحبيبَ المُحسِنا

لو سقي مَثواكَ بالكأسِ الصبيبْ

وتمنَّيتَ، وما أحلى المُنى

خطواتٍ منه، والمثوى قريبْ

**

أتُرَى أعطيتَه سِرَّ الخلودْ؟

أم حبوتَ الحسنَ سلطانًا يدومْ

عجبًا، تخطئُ أسرارَ الوجودْ

أيُّها الحاسبُ أعمارَ النجومْ!

**

شَفَةُ الكأْسِ التي أنطقتَها

لم تَدَعْ من منطقِ الدنيا جوابا

حُجُبٌ عن ناظرِيْ مزَّقْتَها

فرأيتُ العيشَ برقًا وسرابَا

**

ولمستُ الخافقَ الحيَّ المنَى

طينةً تبكي بكفِّ الجابلِ

تشتهي الرَّشْفَةَ مما عَلَّنَا

وهي ملأى تحت ثغر الناهلِ

**

نَسِيَ الأنخابَ من تَهوى وأمسى

مثلما أمسيتَ يستسقي الغمامَا

واشتكتْ رقَّتهُ في الأرض يُبْسَا

وغدا الإبريقُ والكأسُ حطامَا

**

لا، فما زالا، ولا زال الحبيبْ

أيها المفعِمُ بالحبِّ الوجودَا

إنَّ من غَنَّيْتَ بالأمس القريبْ

منَحَتْهُ ربَّةُ الشِّعْرِ الخُلودَا

**

مَرَّ بي طيفُكما ذاتَ مساءْ

وأنا ما بينَ أحلامي وكأسِي

استبدَّتْ بيَ أطيافُ الخفاءْ

وتغرَّبتُ عن الدنيا بنفسي

**

صِحْتُ بالليلِ إلى أَنْ أشفَقَا

فَلْيَقِفْ نجمُكَ … وَلْيَنْأَ السَّحَرْ

جَدَّدَ العشاقُ فيكَ الملتقى

وَحَلَا الهمسُ على ضوء القمَرْ

**

فَادخلَا بين ضياءٍ وغمامْ

حانةَ الأقدار والليلِ القديمْ

مجلسًا يهفو به رُوحُ الغرامْ

كلُّ نجمٍ فيه ساقٍ ونديمْ

**

وانهلا من سَلْسَلِ النُّورِ المذابْ؟

خمرةً ليس لها من عاصرِ

قَنَعَ الصوفيُّ منها بالحَبابْ

وهيَ تنهلُّ بكأْسِ الشاعرِ

**

فاروِ يا شاعرُ عن إشراقِهَا

إنَّمَا كأسُكَ نورٌ وصفاءْ

كيفَ طالعتَ على آفاقِهَا

روعةَ الغيبِ وأسرارَ السماءْ؟

**

كيفَ أبصرتَ الجمالَ المشرِقَا

بَصَرَ الفانينَ في حُبِّ الإلهء

وفتحتَ الأبدَ المُستغلِقَا

عن ضمير الكونِ أو قلبِ الحياةْ؟

**

أبروحانية الشَّرقِ العريقْ

أمْ ببُوهِيميَّةِ الفنِّ الطَّليقْ

سَبَحَتْ رُوحُكُ في الكون السحيقْ

حيث لا يَسْمَعُ طَافٍ لغريقْ؟

**

حيثُ أبصرتَ الذي لم تُبْصِرِ

أعيُنٌ مرَّتْ بهذا العالَمِ

ذاك سرُّ الشاعِرِ المُستهترِ

وَفُتون الفيلسوفِ الْعَالِمِ

**

ذاك سرُّ النَّغْم المسترسل

والصفاءِ السلسلِ المطَّردِ

رُوحُ شادٍ فَنِيَتْ في الأزَلِ

وتحدَّتْ شهوةَ المنتقدِ

**

صَرَخَتْ آلامُهُ في كُوبِهِ

فهوى يثأرُ من آلامِهِ

إنما البعثُ الذي تشْدُو بِهِ

يقظةُ المفجوعِ في أحلامِهِ!

**

إنَّمَا البعثُ المُرجَّى للوَرَى

غايةُ الحيِّ التي لا تُحْمَدُ

إنما تَبْعَثُ في هذَا الثَّرى

بعضَ ما يُقْطَفُ أو ما يُحْصَدُ

**

حَسْبُهَا تعزيةً أنَّا سَنَحْيَا

في غَدٍ، مثلَ حياةِ الزَّهَرِ

وَسَنَطْوِي الأَبَدَ المجهولَ طَيَّا

جُدَدَ الأطْيَاف شَتَّى الصُّوَرِ

**

حسبُها تعزية أن نَحْلُما

بأناشيدِ الصَّباحِ المنتظرْ

ونشقُّ الأرضَ عن وجهِ السَّمَا

حيث نورُ الشمسِ أو ضوءُ القمرْ

**

ربما جَدَّدَ أو هاجَ لنَا

نبأً أو قِصةً منْ حُبِّنَا

نَوْحُ ورقاءَ أرنَّتْ حَوْلنا

أو شَجَى قُبَّرةٍ مَرَّتْ بنا

**

أو خُطَى إِلْفَيْنِ في فجرِ الصِّبا

أتْرَعا كأسَيهما مِنْ ذوبِهِ

أو صدَى رَاعٍ على تلكَ الرُّبَى

صَبَّ في النَّايِ أغاني حُبِّهِ

**

حُلُمٌ مَثَّلْتَه في خاطري

فعشقتُ الخُلدَ في هذا الرُّواءْ

أنكرُوهُ فَحَكَوا عن شاعرِ

جُنَّ بالخمرِ وأغوتْهُ النساءْ

**

ولقد قالوا: شذوذٌ مُغْرِبُ

وإباحيَّةُ لاهٍ لا يُفيقْ

آهِ لو يدْرونَ ما يضطربُ

بيْن جنَبيكَ من الحزنِ العميقُ

**

أَوَلَا يَغْدو الخليعَ الماجِنا

من رأي عُقْبَى الصباحِ الباسمِ؟

ورأَى الحيَّ جمادًا ساكنَا

بعد ذيَّاكَ الحَراكِ الدائمِ؟

**

أَوَلا يُغرِبُ في نَشْوَتِهِ

شاربُ الغُصَّةِ في اليومِ الأخيرْ؟

أَوَلَا يُمعن في شهوتِهِ

مُسْلِمُ الجسمِ إلى الدودِ الحقيرْ؟

**

قصةُ الزُّهدِ التي غَنَّوْا لَهَا

عَلَّلتهمْ بالسَّرابِ الخَادعِ

نشوةُ الشاعر، ما أجملَها!

هيَ مفتاحُ الخلوْدِ الضَّائعِ!!

**

لو أصابُوا حكمةً ما اتَّهموا

وَبَكَى لَاحيكَ وَالمسْتهجنُ

فهوَ من دنياهمُ لو عَلموا

عَبَثٌ مُرٌّ، وَلَهْوٌ مُحْزِنُ!!