كم كان فيها من كرام سادة

كَمْ كانَ فِيها منْ كِرامٍ سادَة

بِيضِ الْوُجوهِ شَوامخِ الإِيمانِ

مُتَعاوِنينَ على الدِّيانَةِ والتّقى

للهِ في الإِسْرارِ والإِعْلان

وَمُهَذَّبٍ جَمِّ الفَضائِلِ باذِلٍ

لِنَوالِهِ وَلعِرْضِهِ صَوَّانِ

وَأَئِمَّةٍ جَمَعُوا الْعُلُومَ وَهَذَّبُوا

سنَنَ الْحَديثِ وَمُشْكِلَ الْقُرْآنِ

عُلَماءَ إِنْ سَاءَلْتَهُمْ كشَفُوا الْعَمَى

بِفَقاهةٍ وَفَصاحَةٍ وَبَيانِ

وَإِذا الأْمُورُ اسْتَبْهَمَتْ وَاسْتَغْلَقَتْ

أَبْوابُها وَتَنازَعَ الْخَصْمانِ

حَلُّوا غَوامِضَ كُلِّ أَمْرٍ مُشْكِلٍ

بِدليلِ حَقٍّ واضِحِ البُرْهانِ

هَجَروا المَضاجِعَ قانِتينَ لِرَبِّهِمْ

طَلباً لِخَيْرِ مُعَرَّسٍ وَمغانِ

وَإِذا دَجا اللَّيْلُ البَهيمُ رَأَيْتَهُمْ

مُتَبَتِّلينَ تَبَتَّلَ الرُّهْبانِ

في جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ أَكْرَمِ مَنْزِلٍ

بَيْنَ الْحِسانِ الْحُورِ وَالغِلْمانِ

تَجِرُوا بِها الفِرْدَوْسَ مِنْ أَربْاحِهِمْ

نِعْمَ التِّجارَةُ طاعَةُ الرَّحْمانِ

المُتَّقينَ اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ

وَالعارِفينَ مَكايِدَ الشَّيْطانِ

وَتَرى جَبابِرَةَ المُلوكِ لَدَيْهِمُ

خُضُعَ الرِّقابِ نَواكِسَ الأَذْقانِ

لا يَسْتَطيعُونَ الكلامَ مَهابَةً

إلاَّ إِشارَةَ أَعْيُن وَبَنانِ

خافُوا الإِلهَ فَخافَهُمْ كُلُّ الْوَرَى

حَتَّى ضِراءُ الأُسْدِ في الْغِيلانِ

تُنْسيكَ هَيْبتُهُمْ شَماخَةَ كُلِّ ذي

مُلْكِ وَهَيْبَةَ كُلِّ ذي سُلْطانِ

أَحْلامُهُمْ تَزِنُ الْجِبِالَ وَفَضْلُهُمْ

كالشَّمْسِ لا تَخْفى بِكُلِّ مَكانِ

كانَتْ تُعَدُّ القَيْرَوَانُ بِهِمُ إِذا

عُدَّ المَنابِرُ زَهْرَةَ البُلْدانِ

وَزَهَتْ على مِصْرٍ وَحُقَّ لَها كَما

تَزْهُو بِهِمْ وَغَدتْ على بَغْدانِ

حَسُنَتْ فَلما أَنْ تَكامَلَ حُسْنُها

وَسَما إِلَيْها كُلُّ طَرْفٍ رانِ

وَتَجَمَّعَتْ فيها الفَضائلُ كُلَّها

وَغَدَتْ مَحَلَّ الأَمْنِ الإِيمانِ

نَظَرَتْ لها الأَيَّامُ نَظْرَةَ كاشِحٍ

تَرْنُو بِنَظْرَةِ كاشِحٍ مِعْيانِ

حَتَّى إِذا الأَقْدارُ حُمَّ وَقوعُها

وَدَنا القَضاءُ لِمُدَّةٍ وَأَوَانِ

أَهْدَتْ لَها فِتَاً كلَيْلٍ مُظْلِمِ

وَأَرادَها كالنَّاطِحِ العيدانِ

بِمَصائِبٍ مِنْ فادِعٍ وأَشائِبٍ

مَمَّنْ تَجَمَّعَ مِنْ بَني دَهْمانِ

فَتَكوا بأمَّةِ أَحْمَدِ أتُراهُمُ

أَمِنُوا عِقابَ اللهِ في رَمَضانِ

نَقَضُوا العُهُودَ المُبْرَماتِ وَأَخْفَرُوا

ذِمَمَ الإلهِ وَلَمْ يَفُوا بِضَمانِ

فاسْتَحْسنوا غَدْرَ الْجِوارِ وَآثَرُوا

سَبْيَ الْحَريمِ وَكَشْفَةَ النِّسْوانِ

سامُوهُمُ سُوءَ العَذابِ وَأَظْهَروا

مُتَعَسِّفينَ كَوَامِنَ الأَضْغانِ

وَالمُسْلِمونَ مُقَسَّمونَ تَنالُهُمْ

أَيْدِي العُصاةِ بِذِلَّةٍ وَهَوانِ

ما بَيْنَ مُضْطَرٍّ وَبَيْنَ مُعَذَّبٍ

وَمُقَتَّلٍ ظُلْماً وَآخَرَ عانِ

يَسْتَصْرِخُونَ فلا يُغاثُ صَريخُهُمْ

حَتَّى إِذا سَئِمُوا مِنَ الارْنانِ

بادوا نُفُوسَهُمُ فَلَّما أَنْفَذُوا

ما جَمَّعوا مِنْ صامتٍ وَصوانِ

وَاسْتَخْلَصوا مِنْ جَوْهَرٍ وَمَلابِسٍ

وَطرائِفٍ وَذَخائِرٍ وَأَوانِ

خَرَجُوا حُفاةً عائِذينَ بِرَبِّهِمْ

مِنْ خَوْفِهِمْ وَمَصائِبِ الأَلْوانِ

هَرَبُوا بِكُلِّ وَليدَةٍ وَفَطيمَةٍ

وَبِكُلِّ أَرْمَلَةٍ وَكُلِّ حَصانِ

وَبِكُلِّ بكْرِ كالمَهاةِ عَزيزَةٍ

تَسْبي الْعُقولَ بِطَرْفِها الفَتَّانِ

خُودٍ مُبَتَّلةِ الوِشاحِ كأَنَّها

قَمَرٌ يَلوحُ على قَضيبِ الْبانِ

وَالمَسْجِدُ المَعْمُورُ جامِعُ عُقْبَةٍ

خَرِبُ المعاطِنِ مُظْلِمُ الأَرْكانِ

قَفْرٌ فَما تَغْشاهُ بَعْدُ جَماعَةٌ

لِصلاةِ خَمْسٍ لا ولا لأَذانِ

بَيْتٌ بِهِ عُبِدَ الإِلَهُ وَبُطِّلتْ

بَعْدَ الْغُلُوِّ عِبادَةُ الأَوْثانِ

بَيْتٌ بِوَحْي اللهِ كانَ بِناؤُهُ

نِعْمَ البِنا وَالمُبْتَنى وَالْباني

أَعْظِمْ بِتِلْكَ مُصيبَةً ما تَنْجَلي

حَسَراتُها أَوْ يَنْقضي المَلَوانِ

لَو أَنَّ ثَهْلاناً أُصيبَ بِعُشْرِها

لَتَدَكْدَكتْ مِنْها ذُرا ثَهلان

حَزِنَت لها كُوَرُ الْعِراقِ بأَسْرِها

وَقُرى الشَّآمِ وَمِصرُ والْخُرسانِ

وَنَزْعَزعَت لمصابها وَتَنَكَّدَتْ

أَسَفاً بلادُ الْهِنْدِ والسِّندانِ

وَعَفا مِنَ الأَقْطارِ بَعْدَ خَلائِها

ما بَيْنَ أَنْدَلُسٍ إِلى حُلْوانِ

وَأَرى النُّجومَ طَلَعْنَ غَيْرَ زَواهِرٍ

في أُفْقِهِنَّ وَأَظْلَمَ الْقَمَرانِ

وَأَرى الْجِبالَ الشُمَّ أَمْسَتْ حُشَّعا

لِمُصابِها وَتَزَعْزَعَ الثَّقلانِ

وَالأَرْضُ مِنْ وَلَهٍ بِها قَدْ أَصْبَحَتْ

بَعْدَ الْقَرارِ شَديدَةَ المَيَلانِ

أَتَرَى اللَّيالي بَعْدَ ما صَنَعَتْ بِنا

تَقْضي لَنا بِتَواصُلٍ وَتَدانِ

وَتُعيدُ أَرْضَ الْقَيْرَوانِ كَعَهْدِها

فيما مَضى مِنْ سالِفِ الأَزْمانِ

مِنْ بَعْدِ ما سَلَبَتْ نَضائِرَ حُسْنِها الْ

أَيْامُ وَاخْتَلَفَتْ بها فئَتانِ

وَغَدَتْ كأَنْ لَمْ تَغْنَ قَطُّ وَلم تَكُنْ

حَرَماً عَزيزَ النَّصْرِ غَيْرَ مُهانِ

أَمْسَتْ وَقَدْ لَعِبَ الزَّمانُ بأَهْلِها

وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ عُرا الأَقْرانِ

فَتَفَرَّقُوا أَيْدي سَبا وَتَشَتَّتُوا

بَعْدَ اجْتِماعِهِمُ على الأَوْطان