انكفاءة على إمرأة ووطن

في سُترتِهِ يَندسُّ

مُنكفئاً

يتحرّى الكونَ

ويرسمهُ حسبَ رؤاهُ.

فالزّحمةُ تُبعِدُهُ عنهُ،

وتفاهاتُ الشارعِ

تُقصيهِ عن بعضِ سجاياهُ.

ماكان رماديّا أبداً،

كان بياضاً صِرفاً في كلّ الأحوالِ

وكان إذا حلّ الليلُ ونامَ النسّكُ

أفاقَ،

وحمّل بالشوقِ مطاياهُ.

كان يُجاهرُ في صمتٍ

تقرأُ في عينيهِ،

أهازيجَ البحرِ وثورتَهُ

حين تُثَرْثِرُ في الأسواقِ الأفواهُ.

أقصوهُ

ثم اجتهدوا في فكّ طلاسمِهِ

فازداد غموضاً ..

واستعذبَ خُلوتَهُ

وتوسّدَ جُلّ مراياهُ.

كان جديداً كالصّبحِ

ومغسولاً بندى النّخلِ

يمدُّ الكونَ شراعاً

يرحلُ في ملكوتِ الأشياءِ

يُؤَوِّلُها كيفَ يشاءُ.

بِكراً كان العالمُ في عينيهِ

ومشحوناً بالدّهشةِ ..

علّمهُ الصمتُ

كلامَ المنسيينَ بأركانِ الليلِ،

فالغَ فيهِ

حتى أجراهُ لغةً كالفُلِّ

على ألسنةِ الطيرِ

وأفئدةِ العُشّاقْ.

كان يخُطُّ الشّعرَ بلا أوراقْ.

ينقشُ في ذاكرةِ الصّحوِ المُطلقِ غفوتهُ

مابين سمائينِ تصبّانِ السّهدَ

بعينيهِ الغارقتين بماء الحبِّ

وتنْصبّانِ به وجعاً حُلواً ..

تعرفهُ حين الصحراءُ تراهُ.

وأرصفة الليلِ الحُبلى بالأسرارِ

تعد خطاهُ.

حين يعودُ من الغيبةِ

متّشِحاً بالشوقِ

يفتشُ تحتَ الجدرانِ المنسيةِ

عن بعضِ بقاياهُ.

نزقٌ،

يوقِفُهُ اللّحنُ الغَجَرِيُّ

على أطرافِ أصابعِهِ

يزرعُ فيه الترحالَ وطعمَ البعدِ

إذا مر بهِ سحَرا كالطيفِ

بما أنْستْهُ الأيامُ.

يوصلهُ برِفاق

مازالوا يرعون النجمَ

ويختطّونَ على الرّملِ قصائدَهُمْ

مازالوا بعْدُ على العهدِ

ومازال يُذَكّرهم بالملحِ

وبالفكرةِ حين تُساورُها الأوهامُ.

نزِقٌ

إلا في الحبِّ

وسهلٌ

إلا حين يضامُ.

هَوَتِ الأعوامُ عليهِ

كأشباحِ الموتِ,

وماحادَ

فما أفلحتِ الأعوامُ.

زُمَراً قاموا ..

لما ألفوه تيمّم بالغيمِ

وصلى الغائب ..

قالوا : ردوه إليكمْ،

حتى لا تفتَتِنَ الأرضُ

أقيموهُ على فيءِ البصرةِ ..

هذا من صُنعِ النخلِ،

تجذّرَ واستعصى ..

وضعَ الدنيا في كفّيهِ وغَرْبَاَها ..

فتهاوتْ من بين أصابعهِ رملاً ..

هذا من صُنعِ اللهِ،

تمرّدَ،

ألقى كل غُبارِ الرّجعةِ

حتى صار شفيفاً

ليس يُرى

إلا حين ينزُّ الجُرحُ بدمعِ امرأةٍ

ترفعُ عن كاهلهِ

قِسْطاً من بوحِ الصحراءِ

أعيدوهُ إلى الفصلِ الأوّلِ

من سِفرِ الأسفارِ

يهيمَ بوحشتِهِ ..

لا امرأةٌ تؤويهِ إليها،

لا قابلةٌ،

تُخرجُ منه الفكرةَ

أو تُخرجُهُ من رَحِمِ الحُزنِ.

دعوهُ عشراً ثانيةً

حتى يهرُمَ فيهِ الجمرُ

ويخبو ..

ثم تُهَدْهِدُهُ الرّيحُ رماداً

زُمَراً قاموا،

وهو هناكَ يصلّي ..

ويُعيدُ نظامَ الشّوكة في الميزانِ

وترتيبَ الأشياءْ.

مازال يصلي ..

ينفثُ من أقصى الوجعِ

الروحَ

بهذي البطنِ العاقِرْ.

مازال يصلّي ويُكابرْ.

يومُك يا إبراهيمُ طويلُ.

والحفرةُ حمراءٌ كلسانِ الطيرِ

وصدرُكَ عارٍ

إلا من وشْيٍ أنامِلها ..

يوم انتفضَ القلبُ الحالمُ

من رقدتِهِ ..

مازلتْ في الصدرِ أناملُها

تبحثُ عن زاوية ليس بها جرحٌ

مازالتْ تتحسّسُ أوردةً

تلهثُ فيها الخيلُ عقوداً ..

يومُكَ يا إبراهيمُ طويلُ.

ومداراتُك

خارجَ هذا الكونِ الباهِتِ

دربٌ آخرُ

للحب وللموتِ وللعودةِ.

لكن الحفرةَ

أوسعُ من أن يملأها

هذا الجسدُ المثقلُ بالشوقِ.

أروني قبراً آخرَ يحضُنني

يجمع فِيَّ شتاتَ الصوتْ.

قبراً ما مرّ بهِ أحدٌ قبلي ..

قبراً يصلُحُ للحُبّ وللموتْ.

قبراً لا يتعدى الشبرينِ

لقلبينِ صغيرينِ

وغُربةْ.

قلبينِ انتبها بعد أفولِ النجمِ

بأن الشمسَ ستحرقُ أستارَ الليلِ

وأن الساعةَ آتيةٌ لا ريبْ.

آه لو نقرأُ مافي الغيبْ.

لو كُنا نتهجّى الأيامَ الحُبلى ..

لزرعنا الرّمانَ الأسودَ

في البحرِ الأحمرِ للحيتانْ.

ونسجنا من أهدابِ بنات الموصلِ

أسلاكاً حول البستانْ.

لو تعلمُ سيدتي

ما تحت السترةِ من بركانْ.

لغَفوْتُ بعينيها الساهرتينِ العمرَ،

ولاسْتنطقتُ السَّيْحَ الظامِئَ والسّمرَ

ليشهدَ أن الموقدَ

مازال يُعطّرُ بالقهوةِ والهيلِ ظفيرتها

واسْتنطقتُ الجبل الضاربَ في الغيمِ

بأني مازلتُ أصلي ..

سيدةَ الجبلِ الشامخِ

فنجانُكِ بين الفرعِ المائلِ والموقدِ

يدعوكِ إليهِ ..

يتوسّلُني،

ألا أرفعَ أشرعتي قبلَ مجيئكِ

فالريحُ شِمالٌ

ورجالُ البحرِ قليلُ ..

يتوسلني،

ألا أبرح مُتّكئي هذا،

حتى تأتينَ بخبزِ الصبحِ

فقد أعددتُ القهوةَ لاثْنينْ.

أقسَمَ فنجانُكِ

ألا يبرُدَ حتى تأتينْ.

أقسَمِ أنكِ آتيةٌ لا ريبْ.

آه لوكنا نقرأ مافي الغيبْ.

جبلٌ،

وشجيراتٌ ظمأى

وبقايا آثارٍ

لفتىً أثقلهُ الشوقُ،

وبيتانِ من الشعرِ

على بابِ عروسِ البحرِ،

وسوسنةٌ في صدر الصّبْ.

أويكفي هذا للحبْ ؟

أويكفي ..

أن نكتبَ

ثم نموتَ

على قارعةِ الصمتِ

كأشجارِ الشارِعْ ..؟

ينقُرُنا في الليلِ حمامٌ

من كل جهاتِ الأرضِ

ونحن الأقربُ للشمسِ ؟!

أودُّ الموتَ بقبرٍ

لا يتعدّى الشبرينِ

لقلبينِ صغيرينِ

وغربةْ.

هذا فنجانُكِ سيّدتي،

أسكبُهُ الآنَ

لتخضَرّ البطحاءُ

ويزهو البَرَمُ الذابِلُ في السّمْرْ

فانا لن أحرِقَ أشرِعتي

قبلَ عبورِكَ

ياوطني.