حوار ساخن مع البحر

للبَحْرِ زُرْقَتُهُ ..

وللشُّبّاكِ آلاءٌ تدل على النّزيلْ .

والوجْهُ وجْهي ،

حيثُما يمّمْتُ لي وطَنٌ

ولكني أَحِنُّ إلى النّخيلْ .

مازادَني التِّرْحالُ

إلا رَغْبَةً في المُكْثِ ،

لكِني أبَيْتُ المُكْثَ

حتى يُبْعَثَ السِّرُّ الذي دفنوهُ

في جَوْفِ القَتيلْ .

أمضِي ،

وتَتْبَعُني ظِلالُ السَّمْرِ أنَّى رُحْتُ …

يَدْفَعُني إلَيَّ المُسْتَحيلْ .

بين الشَّبابيكِ التي غادَرْتُها

والبحرِ

سِرٌّ ليسَ تمحوهُ الرِّياحْ .

أشْفَقْتُ من حُمّايَ

ذاتَ صَبيحَةٍ غَيماءَ

مُنْتَصِباً ،

على قدمينِ من ثلْج ٍ

تَكَسَّرَ عندَ أوّلِ نسمةٍ ..

يا بحرُ ،

لاتدع ِ السَّواحِلَ تُشْتَرى

باللُّؤْلُؤِ المسمومِ،

لا تدَع ِ النِّساءَ

يَلُذْنَ بالحُجَج ِ الرَّخيصةِ ،

إذْ يَبُحْنَ بِسِرِّكَ الأَزَلِيِّ

في سوقِ الإماءْ .

لا تُلْقِنا حُمَماً

تَبَدَّدُ في صهيلِ الرِّيح ِ

أُغنِيَةً ..

يُحَرِّفُها السّفيهُ كما يشاءْ .

بينَ الشَّبابيكِ التي غادَرْتُها والبَحْرِ

يلْتَهِبُ الشِّتاءْ .

روحي وروحُكَ يا مُحيطُ

حمامتان ِ

تُرَفْرِفانِ على رُؤوسِ الماكِثينَ

على ظُهورِ مَطِيِّهِمْ .

مُنذُ احْتِواءِ الرِدِّةِ الأولى

وفتْحِ الشّامِ ،

حتى آخِرِ الرِّدّاتِ

في قَرْنِ القُرونِ،

وعودةِ القِرْدِ المُدَلَّلِ

في ثِيابِ الأُسْدِ

قالوا ،

سوفَ يُمْضي ليلةً أو ليلتينِ

فأكرِموا مثواهُ ..

أكْرَمَهُ الحُفاةُ،

وسلَّموهُ الدّارَ والمُفْتاحَ

وانْصَرَفوا …

والنّوقُ غارِقَةٌ

إلى أعناقِها في الجوعِ

تنْتَظِرُ الخليفَةَ …

والخليفةُ غارِقٌ

في ثوبِهِ الفَضْفاضِ

ينتَظِرُ السماءْ.

يانوقُ ،

هُزّي جِذْعَ هذا الكَوْنِ ..

تَنْهَمِرُ الجِبالُ عليكِ أودِيَةً

تُزَلْزِلُ هَجْعَةَ التاريخ ِ ،

تَكْنِسُ ماتشاءُ من الغُثاءْ .

أُشْرِبْتُ هذا الحُبَّ ،

حتى صِرْتُ قافِيةً

لكُل حمامةٍ

تَجْتَرُّ غُصَّتَها وتُلحِنُ في الغِناءْ.

أُشْرِبْتُ هذا الحُبَّ ،

من ظَمأِ الصَحارَى ،

من دُموعِ الوَرْدِ ،

من عَبَقِ المساءْ .

أُشْرِبْتُ هذا الحُبَّ ،

حتى عُدْتُ كالطِفْلِ

الذي عَجِزَتْ يداهُ عن الْتِقاطِ النَّجْمِ ،

فالْتَهَبَتْ دِماءُ العَجْزِ في خديهِ ثائِرَةً

وأَجْهَشَ بالبُكاءْ.

يا بحْرُ ،

شُدَّ ‘عباءَةَ اللَّيْلِ الطويلِ إليكَ

علّي أملاُ الكأسَ التي سُكِبَتْ

على ظَمَأِ الأَحِبَّةِ،

من رَحيقِ الفجْرِ

أمْلأُها ضِياءْ.

يا بَحْرُ ،

هلْ لي أن أراكَ

كما يراكَ العاجِزونَ وأستريحْ ؟

ماعدْتُ أحتمِلُ البقاءَ،

فقد تداعى ذلك الطَّوْدُ الجريحْ.

لم يبقَ منهُ سوى الظِّلال ِ علىالرِّمال ِ

ونِصفِ أُغنيةٍ حزينةْ.

لم يبقَ منهُ

سوى التَّرَقُّبِ والسَّكينَةْ.

لم يبقَ منهُ عدا أنينهْ.

للبحرِ زُرْقَتُهُ ،

وللشُّباّكِ آلاءٌ تدُلُّ على النَّزيلْ .

والوَجْهُ وجهي ،

حيثُما يمَّمْتُ لي وطَنٌ ،

ولكنِّي أَحِنُّ إلى النَّخيلْ.

فإِلامَ يَتِّسِعُ الفراغُ ؟

وتنتهي كالطَّيْفِ هاتيكَ السّفينةْ.

وأَظلُّ أسَْقِي ورْدَةً

ذَبُلَ الرَّجاءُ بفرعِها

بينَ السَّنابِكِ والصَّهيلْ.

يابَحْرُ ،

هاتِ يدَيْكَ

إنّي غارِقٌ في البَرِّ

ألْتَمِسُ النَّجاةَ

فَهَلْ إلى مَوْتٍ جديدٍ من سبيلْ ؟

خُذْني إلَيْكَ ،

إلى الجُذورِ ،

وحَرِّرِ الرّوحَ الَسَّجينةْ.

قَدْ ضِقْتُ بالسِرِّ الدَّفينِ من الفِرارِ

وضاقتِ الأَرْضُ الكَبيرَةُ بالقتيلْ .