أنت منذ الآن أنت

الكرملُ في مكانه السيّد … ينظر من علٍ إلى

البحر. والبحر يتنهّد، موجةً موجةً، كامرأةٍ

عاشقةٍ تغسل قدَمَيْ حبيبها المتكبّر!

كأني لم أذهب بعيداً. كأني عُدْتُ من

زيارة قصيرة لوداع صديق مسافر، لأجد

نفسي جالسة في انتظاري على مقعد حجري

تحت شجرة تفاح.

كل ما كان منفى يعتذر، نيابةً عني،

لكلّ ما لم يكن منفى!

الآن، الآن … وراء كواليس المسرح،

يأتي المخاض إلى عذراء في الثلاثين،

وتلدني على مرأى من مهندسي الديكور،

والمصوّرين!

جرت مياه كثيرة في الوديان والأنهار.

ونبتت أعشاب كثيرة على الجدران. أمّا

النسيان فقد هاجر مع الطيور المهاجرة …

شمالاً شمالاً.

الزمن والتاريخ يتحالفان حيناً، ويتخاصمان

حيناً على الحدود بينهما. الصفصافة العالية

لا تأبه ولا تكترث. فهي واقفة على

قارعة الطريق.

أمشي خفيفاً لئلاً أكسر هشاشتي. وأمشي

ثقيلاً لئلاً أطير. وفي الحالين تحميني

الأرض من التلاشي في ما ليس من صفاتها!

في أعماقي موسيقى خفيّة، أخشى عليها

من العزف المنفرد.

ارتكبتُ من الأخطاء ما يدفعني، لإصلاحها،

إلى العمل الإضافيّ في مُسَوّدة الإيمان

بالمستقبل. من لم يخطىء في الماضي لا

يحتاج إلى هذا الإيمان.

جبل وبحر وفضاء. أطير وأسبح، كأني

طائرٌ جوّ – مائيّ. كأني شاعر!

كلّ نثر هنا شعر أوليّ محروم من صنعة الماهر.

وكلّ شعر، هنا، نثر في متناول المارة.

بكلّ ما أوتيتُ من فرح، أخفي دمعتي

عن أوتار العود المتربّص بحشرجتي، والمتلصّص

على شهوات الفتيات.

الخاص عام. والعام خاص … حتى إشعار

آخر، بعيد عن الحاضر وعن قصد القصيدة!

حيفا! يحقّ للغرباء أن يحبّوك، وأن ينافسوني

على ما فيك، وأن ينسوا بلادهم في

نواحيك، من فرط ما أنت حمامة تبني عُشّها

على أنف غزال!

أنا هنا. وما عدا ذلك شائعة ونميمة!

يا للزمن! طبيب العاطفيين .. كيف يحوّل

الجرح ندبة، ويحوّل الندبة حَبّة سمسم.

أنظر إلى الوراء، فأراني أركض تحت المطر. هنا،

وهنا، وهنا. هل كنتُ سعيداً دون أن أدري؟

هي المسافة: تمرين البصر على أعمال البصيرة،

وصقل الحديد بناي بعيد.

جمال الطبيعة يهذب الطبائع، ما عدا طبائع مَنْ

لم يكن جزءاً منها. الكرمل سلام. والبندقية نشاز.

على غير هُدىً أمشي. لا أبحث عن شيء. لا

أبحث حتى عن نفسي في كل هذا الضوء.

حيفا في الليل … انصراف الحواس إلى أشغالها

السرية، بمنأى عن أصحابها الساهرين على الشرفات.

يا للبداهة! قاهرة المعدن والبرهان!

أداري نُقّادي، وأداوي جراح حُسّادي على

حبّ بلادي … بزِحافٍ خفيف، وباستعارة

حَمّالة أوجُه!

لم أرَ جنرالاً لأسأله: في أيّ عامٍ قتلتَني؟

لكني رأيتُ جنوداً يكرعون البيرة على الأرصفة.

وينتظرون انتهاء الحرب القادمة، ليذهبوا إلى

الجامعة لدراسة الشِعر العربيّ الذي كتبه موتى

لم يموتوا. وأنا واحد منهم!

خُيّل لي أن خُطاي السابقة على الكرمل هي

التي تقودني إلى “حديقة الأم”، وأن

التكرار رجعُ الصدى في أغنية عاطفيّة لم تكتمل،

من فرط ما هي عطشى إلى نقصان متجدّد!

لا ضباب. صنوبرة على الكرمل تناجي أرزة

على جبل لبنان: مساء الخير يا أختي!

في قلبي منطقة ما، غيرُ مأهولة، تُرحّبُ

بالصغار الباحثين عن حيّز غير محتلّ، لنصب

مُخيّم صيفيّ!

أعبُرُ من شارع واسع إلى جدار سجني

القديم، وأقول: سلاماً يا مُعلّمي الأول في

فقه الحرية. كنتَ على حق: فلم يكن الشعر

بريئاً!

هل قال أحدهم: إن سيد الكلمات هو سيد

المكان؟ ليس هذا زهواً ولا لهواً. إنه أسلوب

الشاعر في الدفاع عن جدوى الكلمات، وعن

ثبات المكان في لغة متحركة!

لرائحة الشجر الصيفية نكهة إيروسية. هنا

تداخلتُ في العشب والزغب والنمَش وسواه،

تحت ضوء القمر!

حيفا تقول لي: أنت، منذ الآن، أنت!