عودة الأسير

النيلُ ينسى

والعائدون إليكِ منذ الفجر لم يَصِلُوا

هناك حمامتان بعيدتان

ورحلةٌ أخرى

وموتٌ يشتهي الأسرى

وذاكرتي قويَّهْ

والآن ’ ألفظُ قبل روحي

كلَّ أرقام النخيل

وكلَّ أسماء الشوارع والأزقَّة سابقاً أو لا حقاً

وجميعَ مَنْ ماتوا بداء الحب والبلهارسيا والبندقيَّهْ

ما دَلني أحدٌ عليكِ

وأنتِ مصرْ

قد عانقتني نَخْلةٌ

فتزوَّجَتني

شَكَّلَتني

أنجَبَتْني الحبَّ والوطن المعذّبَ والهويَّهْ

ما دلّني أحَدٌ عليكِ

وجدتُ مقبرةً…فنمتُ

سمعتُ أصواتاً..فقمتُ

ورأيت حرباً … فاندفعتُ

وما عرفتُ الأبجديَّهْ

قالوا : اعترفْ

قلت : اعترفتْ

يا مصر ! كِسرى سباكِ ولا الفراعنةُ

اصطفوكِ أميرةً أو سَّيدةْ !

قالوا : اعترفْ

قلتُ : اعترفتْ

ونوازت الكلماتُ والعضلاتُ

كانوا يقلعون أظافري

ويُقَشِّرون أناملي

ويبعثرون مفاصلي

ويفتِّشون اللحمَ عن أسرار مصرْ…

وتدفّقت مصرُ البعيدةُ من جراحي

فاقتربتْ

ورأيتُ مصر

وعرفتُ مصر

ما دلّني أحدٌ, خناجرهم تفتِّشني فيخرج شكلُ مصر

يا مصر ! لستِ خريطةً

قالوا : اعترفْ

قلت : اعترفتْ

واصلتُ يا مصر اعترافاتي

دمي غطّى وجوه الفاتحينَ

ولم يغطِّ دمي جبينَكِ , واعترفتُ

وحائط الإعدام يحملني إليك إليكِ…

أنتِ الآن تقتربين . أنت الآن تعترفينَ

فامتشقي دمي !

والنيلُ ينسى

ليس من عاداته أن يُرجع الغرقى

وآلافُ العرائس مَنْ تقاضى أجرها ؟

النيل ينسى

والقرى رفعتْ مآذنها وشكواها

وأخفتْ صدرها في الطينِ…

والمدنُ – الجنودُ الغائبون – الاتحادُ الاشتراكيُّ المغني

راقصاتُ البطن – والسيّاحُ – والفقراءُ

سبحان الذي يعطي ويأخذُ !

ليس من عادات هذا النيل أن يصغي إلى أحدٍ

كأنَّ النيل تمثالٌ من الماء استراح إلى الأبد

ماذا يقول النيلُ

لو نطقتْ مياه النيلِ ؟

يسكت مّرةً أخرى

وينساني…

لتسكتْ جوقة الإنشاد حول جنازتي !

وخذي عن الجثمان أعلامَ الوطن

يا مصر ! تحيا مصر .. تحيا مصر… تحيا مصرُ

غطّي حفنة من رمل سيناء التي ابتعدتْ عن العينين

والتجأتْ إلى الرئتين

وامتشقي دمي

وخذي عن الجثمان أعلام الوطن

سيناء ليس كفن !

والنيلُ ينسى

ماذا يقول النيلُ’ لو نطقتْ مياهُ النيلِ ؟

يسكت مرةً أخرى

ولا يستقبل الأسرى

ليسكت ههنا الشعراءُ والخطباءُ

والشّرطيُّ والصحفيُّ

إنّ جنازتي وصلت

وهذي فرصتي يا مصرُ.. أعطيني الأمان

يا مصر ! أعطيني الأمان

إني حرستُك . كانت الأشياء آمرةً وآمنةً وكان المطربُ

والسميُّ يصنع من نسيج جلودنا وَتَرَ الكمان

ويُطْربُ المتفرِّجين

قد زيَّفوا يا مصر حنجرتي

وقامةَ نخلتي

والنيل ينسى

والعائدون إليك منذ الفجر لم يَصِلوا

ولستُ أقول يا مصر الوداع

شَبَّتْ خيول الفاتحين

زرعوا على فمك الكروم, فأينعتْ

قد طاردوكِ وأنتِ مصر

وعذَّبوكِ وأنت مصر

وحاصروكِ – وأنت مصر

هل أنت يا مصر ؟

هل أنت … مصر !