ولا تحسبن

هذه النار ليست لتدفئني

إنها خدعة الكهرباء

وهذا الضجيج يقطّر في القلب حزناً عريقاً

ولا يدفئ العاريَ العربيَّ

ولا يطعم الجائعَ العربيَّ

وأنتِ معي

أنتِ ترتعدين معي

من ترى سوف يمنحنا غير هذا الضجيج

إن لون الدماء جميلٌ ، ولكن جرحي بليغ

ولون الدموع صفاء

ولكن عينيك إذ تبكيان تصيران جارحتين

وأنتِ معي

أنتِ نبضٌ من الدمع والجوع والزمهرير

وأنا أتخبط بين بلادي وبينك مثل الضرير

وأنا عاجز عنكما

حلمي فيكما صار أكبر مني

وهذي العيون التي لا تنام

العيون التي أقلقتني

مذ انفجرت من محاجرها في المعارك

صارت تجردني من جموحي

أظل صغيراً على الحلم والعشق

أُتقن وحدي الذبول

وبي غصة الطفل حين يواجه صبحاً مطيراً

ويقلق ملء جوانحه الزغب من رهبة الليل

أو من تجهم وجه الكبير

دثريني بعينيك ، إن العيون تطاردني

الحزن كان ضباباً ، وصار صواعق

هذا الخواء يعبئني

منذ كنا صبيين نركض نحو الدماء

وكنتِ معي

ثم جاءت إلينا العيون الشهيدة

فاستوقفتنا

ومرت ولم تلتفت

تركتنا معاً خائبين أمام السرير

كل يوم تفاجئني أعين الشهداء

وتفضح صمتيَ في موتها

وبلادي تناءت

أُنادي: تعالي وهاتي البلاد

فتأتين كي تصبحي في اللقاء امرأه

وأنا أبتغي امرأة تحتويني بلاداً

وتبعد عني وميض العيون الشهيدة

لا تستحيل إذا ما التقينا امرأه

فدمشق تصير معي امرأة

غير أن دمشقَ النساءُ اللواتي اشتُهينَ

النساء اللواتي يصرن المحالْ

ودمشق بكت في الظلام ،

سمعتُ النشيجَ

استرقتُ إلى الحزنِ

كانت مكورة تشتكي

وتئن مع الفقراء

وتنع تلك العيون لنا نصباً

وهي تحمل أبناءها الشهداء

وتأبى إراحتهم في القبورِ

وتأبى انتهاء احتضارهمو

جفّتِ الزغردات التي أُطلقت في الجنائزِِ

مذ أقبلت أعين الشهداءِ

وصاحت : “لماذا قتلنا؟”

مذ اختنقت بالدموع الحناجرُ

جاءت صراخاً يهز السماء فتهتزُّ

مثل الذي يُسْلم الروحَ

والشهداء يطلون عبر التوابيتِ

يُحتَضَرون ..

تصير شهادتهم ميتةً

واحتضاراً يطولُ

انتهى زمن الزغردات

وجاء زمن البكاء

تلك رعشتهم تستمر سنينَ

وتصبح كالكهرباءِ.

تضيءُ بيوت دمشق ، تدير معاملها

وتزيد مرابح تجارها

والمصابيح تسطع وهج شهادة تلك العيونِ

التي حاصرتني ، مذ امتلأت بالضياءِ

ولم تعترف بالفناءِ

ولم تقبل الإرتخاءْ

أقبلت أعين الشهداء لليل دمشق

ودقت بيوت النيام

وطافت بكل الحواري تنادي

فجمّعتِ الخلق في ساحة

ثم قالت لهم:

“إشهدوا .

لم نمت أمسِ ، كنا نعيش بكم

إشهدوا .

إننا الآن فيكم نموتُ

خناجركم قتلت

وحناجركم قتلت

نحن منكم براءٌ ،

ألا فاشهدوا .

كلكم قاتل بيدٍ

بلسانٍ

بقلبٍ

أتينا نموت أمام الشهود الجناةِ ،

ادفنونا

يحق لنا أننا نستريحُ

انثرونا على الأفقِ

نحن شهود عليكم

تضيق القبور بنا

أبتِ الأرضُ أن تحتوينا

وقالت: لكم أهلكم فارجعوا نحوهم

ولْتلاقوا بهم مستراً

كل صدر تنفس بعد الفجيعة

صار ضريحاً لنا

فافتحوا أيها الأهل هذي الصدور لنا أضرحه”

أين نهرب وسط دمشق من الصوت والضوءِ

كيف انتقتني العيون الشهيدةُ

كيف أُحيلت إليّ العيون الشهيدةُ

كيف أهرّب حباً لنا في زحام العيونِ

وهذي دمشق تطارد بالشهداء

وتفضح سر الزوايا الخفيةِ

حين تسلط ضوء دم يتصبّب عبر الجبالِ

تحمّل رائحة الدم للريحِ

فاجعة الجرح للرعد

شهقة محتضر لابتسامة برق

نجومُ دمشق عيون

تصيح وتهتز فوق مزاد

يبيع دماء الشهيد

وعدةَ حرب الشهيد

وبذلتَه

ووصيتَه

آخر الكلمات التي قالها

قبل أن يُسلم الروح وهو يسفُّ التراب

ودمشق ، التي واعدت دم أبنائها حيث لا يقبلون

وجاؤوا إلى حيث لا يلتقون بها ،

ترتمي وهي تصرخ مفجوعة

تتلفت حين يفاجئها في الصباح الدويُّ

فتجهضنا عاشقين استظلا بروح شهيدٍ

وتفضحنا حين تبزغ من جبهتينا

أنا ، في دمشق ، دمشق

بثكل دمشق ، ويتم دمشق

يجيء إليّ اليتامى الصغار

] الصغار يجيئون لا يخجلون

ولا يتقنون مراعاة هذي الظروف [

يسدون أُفقي ،

يضيق بيَ الحبُّ ، ثم أضيق به كالضباب

أُريد صديقي

أكان صديقك بين الشبابِ

ولا تحسبن الذين …

تدفق وجه صديقي

] تدفق دون حياء ودون مراعاة هذي الظروف [

أتمتم شيئاً خجولاً لأدفع تهمته

وأُبلل وجه صديقي بكأسي

وأرشفه في شرابي

فينزف عبر جبيني

يفاجئني دمه عالقاً في ثيابي

يفاجئني عمره هارباً من شبابي

أبعدي وجهه عن ضميري فلست بقاتله

ليس ذنبي إذا عشتُ حتى المزادِ

أنا ، مثله ، سلعة حملت دمها العربيَّ إلى السوقِ

قولي له عن لصوص الدماء

وعمن أتوا يخدعون الدموع

ويلقون أوزارهم في ترابي

دثريني …

فهذي الحشود قبورٌ

وهذا الضجيج خواءٌ

به لهب قارس

شغب صامت

ليس حبك دفئاً

فعيناك تحتجزان دمي

والعيون الشهيدة تومئ لي منهما

ودماء القتيل تشد حنيني إلى وجهه

وأنا خائف مثل ماء يراق على الرمل

وجه صديقي تبدّى كرعدة لوم

فجئت إلى بيته مستدلاً بنهر العويلْ

كنت أعرف وسط الجدار له صورةً

حين كنا صغاراً تحيرنا مقلتاه

وكان يرانا ونحن بحضرتها نتهرب

كنا نزوغ

وننزل .. نصعد .. نجري هنا وهناك

وكان يرانا

] تعالي معي

كنتِ مثلي تهابين عينيه [

سوف يرانا على الباب كل الحياة التي غاب عنها

سيشهق ثم يموت

ويشهق ثم يموت

ويشهق ثم يموت

وعيناه شاهدتان تطلان من صورة في الجدار

وعبر تهدج صوت عجوز

تعانقني وهي تنشجه

وتكلمني وهي تشهقه

سيراني

فعيناه مزروعتان مع القمح والعشب والشجرِ ،

القريةُ الآن ترزح

من يتجرأ أن يتملى جمال البساتينِ ؟

إن البساتين عيناه

قريتنا تتحرك فاقدة وجهه مثل مجهضةٍ

فالسنابل تمتد شاخصة

والمناجل تقطع سيقانها

غير أن العيون تصير بيادر

تُنقل قمحاً لكل البيوتِ

الليالي تجيء من الظهر

كي تغمض الأعين المشرئبة من شجر الحقلِ

لكن عينيه تنفجران نجوماً

وتُغْرِق وسط حصار العيون البيوتَ

فتقلق ثكلى تغص بلقمتها

لم تصدق بأن فتاها يموتُ

وظنت شهادته زغردات

وتدرك من طعم لقمتها أنه ماتَ

قريتنا تتحرك صامتة

ويلف الحزانى سؤالاً بهيئة طفل

تساءل: ما الموت ؟

ثم تشهاه سراً

تساءل : أين أبي ؟

ولماذا يموت ؟

فيأمره أهله بالسكوتْ

يرزح الثاكلون ، وتأتلق الأعينُ – الأنجمُ الشاخصاتُ

ويخفي الحزانى الجراحَ الجديدة في الكبرياءِ

إذا أبصروا دمه في المزاد

وجثتَه تحت أرجل أخصامه ومحبيه

روحُ الشهيد بهم تتطاير أسئلة

كيف ، بعد الممات ، تضيق القبورُ ؟

وبعد البيوت تضيق الصدورُ ؟

وبعد الحياة يضيقُ المماتُ ؟

فأين تلاقين واحة عشق لنا

في دمشق يموت السقاةُ

ويأتي سقاة القرى ليموتوا

وينتظر الشاربون أمام المقابر موتاً جديداً

يموت المغني ويحتضر السامعونَ

ونحن نلوذ بحب يلوذ بنا

فيفاجئنا وجهه المستحيلْ

وأنا ون ولولةٍ أحمل الآن وجه صديقي

الذي ارتجَّ حين انتهى زاده وذخيرته

ثم نادى ولم يسمعوه

ونادى ولم يسعفوه

فقاتل حتى … ولا تحسبن

فحوكمت البندقية عنه

* ولا تحسبن الذي قتل الأمس كان شهيداً

صديقي ؟

* صديقك هذا غبيٌّ

قضى دون أن يتعلم

أن النخاسة عصر

وأن المجاعة صارت هويته

وأطل صديقي فجفّف هذا الكلام

شهادته بين عينيه

وحدي رأيت الشهادة ذابلةً

مات بالحزن والوحشة الأبدية

مات وعيناه في نخلة ظنها امرأة عاريه

وأطل بنظرته …

كان يشكو مجاعته للرغيف ، ولا امرأة

وللمستكِ الحانية

كان – أذكره –

كلما ضاق في وجهه الدهرُ

وامتلأ الصدر أسئلة قاسيه

ساءل السعفَ عن حزنه وارتخاء اليدين

النواعيرَ عن سر هذا الأنين

المواويلَ كيف تخزّن هذي الدموع له

وتفجِّر هذا العذاب به

وسط غربته الضاريه

ظامئاً كان …

بلّل حنجرة القهر بالآه والآخ

ليّن قسوة أضلاعه برباب وأوف ..

ولا تحسبنَّ الذي انفجر الدمع من وجنتيه حزيناً

ولا تحسبنَّ الذي غمر الدم عينيه صار شهيداً

ولا تحسبنَّ الرصاص الذي أمروه علامة حرب

هي الخدعة العربيةُ

تذهل مرضعة عن رضيع

ترى الناس صاروا سكارى وما هم سكارى

ترى الناس ينسون طعنة غدر أتتهم صباحاً

وحين رأوا الدم ظهراً تولّوا حيارى

فلا تحسبن .. ولا تحسبن

ولا تحسبن ضجيج المزاد قتالاًَ

دم الأضحيات يراق لكي يتبارك في السوق

جمع الصيارفة الطيبين

فلا تحسبن

ولا تحسبي أنني عاشق

غربتي الريح ، والأرض راكضةٌ

كيف أُوقف قلبي على امرأة رجفت

في البلاد التي تتأرجح نازفةً

والتي تتخبط غارقة في دم الشهداءِ

أنا لستُ إلا غريباً

وغربته بدأت منذ أن صار للأبجدية معنى ومعنى

وصار الشهيدُ الضحيةَ

صار الرصاص علامة موت وبدء زفافٍ

] وفي حفلة العرس أطلق شارة سر

تنادي العدو إلى البيتِ [

شيء بقلبي نما في فلسطينَ

صار الرصاص بحوزتنا قاتلاً لفلسطينَ

لا تحسبنَ فلسطينَ بعد الحرب تظل فلسطين

بعد الحروب تبدّل موقعها

ابتدأت بدم ، ثم صارت قميصاً

فقبعة

فحذاء

فآثار خطو على الرمل

ذاكرة

فحكاية طفلٍ

فلعبة نرد

فسلعة سوقٍ

طريقاً إلى جسدٍ

] ولنا ذلك السد يمنعني عنك [

إن فلسطين ، من جيلنا ،

طفلة كبرت في الهموم التي فاجأتنا صغاراً

وجاءت فلسطين نحو القرى كلمة في كتابٍ

وأهل القرى يجهلون القراءة

جاءت غناء وهم يطلبون الرغيف

فكيف يموت الجياع فداء لأغنية ؟

وفلسطين عمرٌ لنا وملامح وجه وعشق

فكيف سنعشق في غيبة العشق

إن زمان فلسطين يظهر فينا ندوباً

مذ اتسعت سوقهم وازدحمنا

وضاقت بنا الأرض

وامتلأت مقلتاك دموعاً

فما عاد لي فيهما نظرة

لم يعد في بلادك متسع لفقير محب

أو امرأة عاشقه

إنها اللحظة الخانقه

***

فاتحة

..

أقبل الصيرفيُّ اشترى من أهالي البلادِ الدماءَ ، وصافح

بالدم خنجر خصم بأن لنا جنة الخلد ، والجنةُ الخلدُ

يرسو عليها المزادُ ويربحها الأغنياء ، وتبقى فلسطين

تسهر في أعين الشهداء التي تتجول في الليل كالكهرباء

***

فتعالي لنهرب نحو .. “ولا تحسبن”

فعيناه فينا

ونحن ، على الأرض ،

عاشقة أقبلت نحو عاشقها

من زمان فلسطين

حين اعتنقنا

وأطلقتُ فيك الجنينَ الشريدَ

أطلت فلسطين

وسط جبين الوليد

علامته الفارقه