هي المواطن أدنيها وتقصيني

هي المواطن أدنيها وتُقصيني

مثل الحوادث أبلوها وتُبليني

قد طال شكواي من دهر أكابده

أما أصادف حرّاً فيه يُشكيني

كأنني في بلادي إذ نزلت بها

نزلت منها ببيت غيرِ مسكون

حتى متى أنا في البلدان مغترب

نوائب الدهر بالأنياب تُدميني

فتارةً في المَوامي فوق مُوَقرةٍ

وتارةً في الطوَامي فوق مشحون

كم أغرقتني الليالي في مصائبها

فعُمت فيهنّ من صبري بدُلفين

أنا ابن دجلة معروفاً بها أدبي

وإن يك الماء منها ليس يُرويني

قد كنت بلبلها الغِرّيد أنشدها

أشجى الأناشيد في أشجى التلاحين

حيث الغُصون أقَلّتني مكلَّلَةً

بالورد ما بين أزهار البساتين

فبينما كنت فيها صادحاً طرباً

أستنشق الطيب من نفح الرياحين

إذ حلّ فيها غراب كان يُوحِشُني

وكان تَنعا به بالبين يؤذيني

حتى غدَوْت طريداً للغراب بها

وما غدوت طريداً للشواهين

فطِرت غير مُبالٍ عند ذاك بما

تركت من نرجس فيها ونسرين

ويل لبغداد مما سوف تذكره

عنّي وعنها الليالي في الدواوين

لقد سَقيت بفيض الدمع أربُعها

على جوانب وادٍ ليس يَسقيني

ما كنت أحسب أني مذ بكَيت بها

قومي بكيت على من سوف يُبكيني

أفي المروءة أن يَعتزّ جاهلها

وإن أكون بها في قبضة الهُون

وأن يعيش بها الطُرطُور ذا شَمَم

وأن أسام بعيشي جدع عِرنيني

تالله ما كان هذا قطّ من شِيمي

ولا الحياة على النكراء من ديني

ولست أبذُل عرضي كي أعيش به

ولو تأدّمت زَقّوماً بغسلين

أغنت خشونة عيشي في ذُرا شرفي

عما أرى بخسيس العيش من لين

عاهدت نفسيَ والأيام شاهدة

أن لا أقِرَّ على جَوْر السلاطين

ولا أصادق كذاباً ولو مَلِكاً

ولا أخالطَ أخوان الشياطين

أما الحياة فشيء لا قرار له

يحيا بها المرء مَوْقوتاً إلى حين

سِيَانِ عندي أجاء الموت مُخْتَرِماً

من قبل عشرين أم من بعد تسعين

ما بالسنين يقاس العمر عندي بل

بما له في المعالي من تحاسين

لو عشت ستين عاماً لاستعضت بها

ستين مكْرُمةً بل دون ستين

فإنما أطول الأعمار أجمعها

للمَكْرُمات من الأبكار والعُون

إن اللئيم دفين قبل ميتتِهِ

وما الكريم وإن أودى بمدفون

وليس مَن عاش في ذُلٍّ بمغتَبَط

ولا الذي مات في عزّ بمغبون

ما كنت أحسَب بغداداً تُحَلّئني

عن ماء دجلتها يوماً وتُظميني

حتى تقلد فيها الأمر زعنفةٌ

من الأُناس بأخلاق السراحين

ما ضرّني غير أني اليوم مِن عرب

لا يغضبون لأمرٍ ليس يُرضيني

تالله ما ضاع حقّي هكذا أبداً

لو كنت من عجم صُهْب العَثانين

علام أمكُث في بغداد مصطبراً

على الضراعة في بُحبوحة الهُون

لأجعلنّ إلى بيروت هُنتَسَبي

لعلّ بيروت بعد اليوم تُؤويني

خابت ببغداد آمال أؤمّلها

فهل تخيب إذا استذرت بصِنّين

فليت سورّية الوَطفاء مُزنتها

عن العراق وعن واديه تُغنيني

قد كان في الشام للأيام مذ زمن

ذنب محَته الليالي في فلسطين

إذ كان فيها النشاشيبي يسعفني

وكنت فيها خليلاً للسكاكيني

وكان فيها ابن جبر لا يُقصر في

جبر انكسار غريب الدار محزون

إن كان في القدس لي صحب غطارفة

فكم ببيروت من غُرٍّ ميامين