تهاويم

لسْتُ أدْرِي أنا المُغَرِّدُ في الرَّوْضِ

حَزيناً على الأَليفِ المُغادِرْ؟!

مَن أَنا؟! قَبْلَ أَنْ أَكونَ مِن النَّاسِ

شَجِيّاً بما يُثِيرُ الخواطِرْ؟!

مُنْذُ أن كنْتُ في القِماطِ.. دِمائي

قائِلات تَوَقَّ عَصْفَ المخاطِرْ!

وبدا لي صِدْقُ المقالِ.. صَبِيّاً

وَفتِيّاً يَطْوِي السِّنينَ الهواصِرْ!

ثُمَّ شيخاً بَلا الزَّمانَ فأَبْلاهُ

وأَبْلا يراعَهُ والقماطِرْ..!

لم يَعُدْ باقِياً له سوى الحَشَفِ

البالي ومِن حَوْلِه الحَوالي النَّوامِرْ!

* * *

لَتَخيَّلْتُ أنِّي كنْتُ من قَبْلُ

عَظِيماً مُسَوَّداً في العشائِرْ..!

وله صَوْلَةٌ.. وفيه مَضاءٌ

يَتَحدَّى بها اللَّيُوثَ الكواسِرْ!

هكذا ظَلَّ فَتْرَةً.. ثم أَمْسى

بَعْدَها مضغة الجُدُود العَواثِرُ!

يَتَدَهْدى بَيْن الأَنامِ.. فهذا

يَتَّقِيهِ. وذاك يَرْثي المصائرْ!

ومَضَتْ فَتْرةٌ عليه فَأَلْفى

نَفْسَه ثاوِياً بإِحْدى الحظائِرْ!

فَرَساً غالِياً على الصَّاحِبِ الفارِسِ يَزْهو بِسَبْقِهِ ويُفاخِرْ!

مَرّ حِينٌ عليه كالْماسِ.. كالتِّبْرِ.. فما يَقْتَنِيه غَيْرُ الأكابِرْ!

وكبا مَرَّةً.. فَعادَ حُطاماً تَتَّقِيهِ مِن الهوانِ النَّواظِرْ!

* * *

وتمادى الزَّمانُ في سَيْرهِ الرَّاكِضِ

قَرْناً مِن بَعْدِ قَرْنٍ طَوِيلِ!

فإِذا بي أَغْدو هِزَبْراً بِرَغْمي

ذا نيُوبٍ.. ومخلب قتال!

كانَ قَلْبي رِخْواً فَعادَ صَلِيباً

لا يُبالي بِرُشْدِهِ والضَّلالِ!

يَنْهَشُ الوَحْشَ والأُناسَ

ولا يَحْفَلُ إلا بالزَّوْجِ والأَشْبَالِ!

كم تَلَذَّذْتُ بالفَرِيسَةِ تَغْدُو

في فَمِي مَطْعَماً بِهَوْلِ اغْتِيالي..!

* * *

وتَحَوَّلْتُ بعد ذلكَ صَقْراً

جارِحاً يَذْرَعُ السَّماءَ اقْتِحاما!

فإذا ما رآهُ طَيْرٌ تَوَلَّى

خِيفَةً مِنْه أَنْ يكونَ طَعاما!

وهو يَنْقَضُّ كالمنَايا على الطَّيْرِ

وقد يُورِدُ الظِّباءَ الحِماما!

أَتُراهُ يَرى الرزايا فَمَا يَرْحَمُ

رُزْءاً؟ أَمْ أَنّه يَتَعامى؟!

* * *

ثم شاءَ الزَّمانُ ضَعْفي فَأَصْبَحْتُ به بُلْبُلاً شَجِيَّ الغناءِ!

لي أَلِيفٌ من العُشّ يَشْدُو كما أَشْدو. ونَحْيا في رَوضة غَنَّاءِ!

تَحْتَنا النَّخْلُ والأَزاهِيرُ والماءُ

ومِن فَوْقِنا صَفاءُ السَّماءِ!

غَيْرَ أَنَّا نَخافُ من جارحِ الطَّيْرِ

ونَخْشى التَّحْلِيقَ عَبْرَ الفضاءِ!

* * *

لَم أكُنْ أَشْتَهي سوى العَيشِ في الرَّوْضِ. طَليقاً مع الأليف الحبيب!

آهِ. لَوْلا الصّقُورُ تَنْقَضُّ بالموْتِ

على البُلْبُلِ الشَّجِيِّ الكئِيبِ!

لَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَعِيشَ مَدى العُمْرِ طَرُوباً بالشَّدْوِ والتَّشْبِيبِ!

بُلْبُلاً ناعِماً.. وما يَعْرِفُ الخَوْفَ

ولكِنْ ما كانَ هذا نصيبي..!

* * *

قَدَري شاء أَنْ لأَعُودَ إلى العَيْش

كما كنْتُ آدِميّاً.. لَهِيفا!

لأَرى حَوْليَ المآثِرَ تُقْصِيني

وتُدْني لها اللَّبِيبَ الحصيفا..!

وأنا أَشْتَهِي المآثِرَ لَوْلا

أَنَّني لم أَكُنْ أَمِيناً عفيفا..!

يا حَياتي لو أَنَّني أَمْلِكُ الحوْلَ

لما كُنْتُ مُسْتَكِيناً ضَعِيفا!

إنّني أَنْشُدُ الرَّبِيعَ. فما تُبْصِرُ عَيْني الحَوْلاءُ إلاَّ الخَريفا!

فَلَعَلِّي أَنالُ يَوْماً من القُوَّةِ

ما يَجْعَلُ الصَّفِيقَ شفيفا!