التراب المقدس

وَسِّدْ الآنَ رَأْسَكَ

فَوْقَ التُّرَابِ المقدَّسِ

وَاركَعْ طويلاً لَدَى حَافَةِ النَّهْرِ

ثَمَّةَ من سَكَنَتْ رُوحُهُ شَجَرَ النِّيلِ

أَوْدَخَلتْ في الدُّجَى الأَبنوسيّ

أَو خَبَّأَتْ ذَاتَها في نُقُوشِ التَّضَارِيس

ثَمَّةَ مَن لَامَسَتْ شَفَتَاهُ

القرابِينَ قَبْلَكْ

مَمْلكةُ الزُّرْقَةِ الوثنيِة…

قَبْلكَ

عاصِفَةُ اللَّحَظاتِ البطيئِة..

قَبْلك

طقسُ الوجوهِ المدلّاةِ في مِهرجانِ المشانقِ

قَبْلكْ

يا أيُّها الطيْفُ مُنْفلِتاً مِنْ عُصُورِ الرَّتَابِةِ والمسْخِ

مَاذا وراءَكَ

في كُتُبِ الرَّملِ؟

ماذا أمامَكَ؟

في كُتُبِ الغيْم

إلاّ الشموسُ التي هَبَطَتْ في المُحيطات

والكائناتُ التي انحدرَتْ في الظّلامْ

و امتلاُؤكَ بالدَّمْعِ

حتَّى تراكَمْتَ تحت تُرابِ الكلامْ

***

وَسِّدِ الآنَ رأسَكَ

مُتعَبَةٌ هذهِ الرأسُ.

مُتعَبَةٌ

مثلما اضطَرَبَتْ نجمةٌ في مداراتِها

أمسِ قَدْ مَرّ طاغيةٌ من هُنا

نافخاً بُوقَهُ تَحتَ أَقواسِها

وانتهى حيثُ مَرَّ

كان سقفَ رَصَاصٍ ثقيلاً

تهالَكَ فوق المدينة والنّاس

كان الدّمامَةَ في الكونِ

والجوعَ في الأرضِ

والقهرَ في الناسِ

قد مرَّ طاغيةٌ من هُنا ذاتَ ليلٍ

أَتى فوق دبّابةٍ

وتسلَّقَ مجداً

وحاصَرَ شعباً

غاصَ في جسمِهِ..

ثم هامَ بعيداً

ونَصَّبَ من نفسِهِ للفجيعةِ رَبَّا

***

وَسِّدِ الآنَ رَأسَكَ

غيمُ الحقيقةِ دَربُ ضِيائِك

رَجْعُ التَّرانيمِ نَبعُ بُكائكْ

يا جَرَسَ الصَّدَفاتِ البعيدة

في حفلة النَّوْءِ

يشتاقُكَ الحَرَسُ الواقفون

بأسيافِهم وبيارِقِهمْ

فوقَ سور المدينة

والقُبَّةُ المُستديرةُ في ساحةِ الشَّمس

والغيمةُ الذَّهبيَّةُ

سابحةً في الشِّتَاءِ الرماديِّ

والأُفُقُ الأَرْجُوانيُّ والأرصِفَة

ورؤوسُ مُلوكٍ مُرَصَّعةٌ بالأساطير

والشعر

والعاصفة

***

أمسِ جئتَ غريباً

وأمسِ مضيتَ غريباً

وها أنْتَ ذا حيثُما أنتَ

تأتي غريباً

وتمضي غريباً

تُحَدِّقُ فيك وُجوه الدُّخَانِ

وتدنو قليلاً..

وتنأى قليلاً

وتهوى البروقُ عليك

وتَجْمُدُ في فجواتِ القِناعِ يداك

وتسألُ طاحونةُ الرِّيح عَنك

كأنّكَ لم تكُ يَوماً هناكَ

كأنْ لم تكُنْ قَطُّ يوماً هنالك

***

وَسِّدِ الآنَ رَأسَكَ

في البدء كانَ السُكُونُ الجليل

وفي الغدِ كان اشتِعالُك

وَسِّدِ الآنَ رَأسَكَ

كان احتجابُكَ

كان غيابُكَ

كان اكتمالك

***

وَسِّدِ الآنَ رَأسَكَ

هذا هُوَ النَّهرُ تغزِلهُ مرَّتَين

وتنقضه مرَّتَين

وهذا العذاب جمالُكَ