القريض

أنا يا أمّ عمرٍو لستُ ممّنْ

يبيعونَ قريضاً في المتاجرْ

أيُعرضُ في المتاجرِ بيتُ شِعرٍ

قد اختصَّتْ به لغةُ الضمائرْ؟

ولنْ تجدِيْ ضميراً في مكانٍ

يُسَوّقُ فيه شِعراً جورُ جائِرْ

كأذيالِ عباءاتٍ تلهَّىْ

بأقواتِ الخلائقِ والمصائِرْ

ولا في حانةٍ فيها القريضُ

يُقدّمُ مع خُمورٍ وسجائرْ

ولا في طُرقةٍ فيها القريضُ

مهانٌ تحت أقراصِ الفطائرْ

ولا في مسرحٍ نسجَ الحَكايا

على سِيَرِ البَغايا لا الحرائِرْ

ولا في مَجْمعٍ عدَّ القريضَ

إذا طالَ الوُلاةَ منَ الكبائرْ

وما شِعريْ سوى أجزاءِ روحٍ

إذا جُمِعتْ تخايلَ رسْمُ شاعِرْ

بدمعٍ دون أجفانٍ ونبْضٍ

بلا قلبٍ وخطوٍ دون سائرْ

ونارٍ دونَ أحطابٍ وجُرحٍ

بلا نزفٍ وشكْوٌ للسواهرْ

وعشقٍ دون عشّاقٍ وعذْلٍ

بلا ذنبٍ وهجْرٍ دون هاجِرْ

ودربٍ دون أنوارٍ وحجْرٍ

على قمرٍ وليلٍ دون دابِرْ

وإسمٍ دون عنوانٍ كنبتٍ

على الماءِ تؤمّلُهُ المصائرْ

وأنّاتِ أذانٍ في مهبّ

أراويحٍ من البُهتانِ خائرْ

وأرضٍ دون كنعانَ وبيتٍ

بلا جُدْرٍ وسيفٍ دون ثائرْ

ونصْرٍ دون أسلابٍ وسلْمٍ

بلا أرضٍ وقدسٍ في الخسائرْ

وطفلٍ يتّقيْ بردَ الشتاءِ

بثوبٍ خيطَ من دفءِ المشاعرْ

وشعرٍ مُدَّ فامتدّتْ ظلالٌ

بها الكهلُ اتّقى حرَّ الهواجِرْ

ويأسٍ مدَّ أيديهِ لموتٍ

يلوحُ لهُ بشِعري كالبشائرْ

وصبرٍ يُصبِرُ الموتَ بشيءٍ

من الآمالِ في آتٍ مُناصرْ

فأمسى الموتُ ما بين اصطبارٍ

ويأسٍ فيَّ يختصِمانِ حائرْ

وبحرٍ دون شطآنٍ نجا من

هُ ساداتٌ بيوتهمُ المقابرْ

وسجنٍ دونَ قضبانٍ به من

سوى الأشبالِ والطيرِ الكواسرْ

وأمٍّ أشرقتْ خلفَ الحروفِ

ونورٍ مرّ من بينِ السّتائرْ

ألا إنّ القريضَ سوادُ عتمٍ

بنورِ الأمّ يسطعُ كالنوائرْ

وما أُخْفيْ وما لم أُخفِ عنكِ

أليس الشِّعرُ بيتاً للسرائرْ؟

وما روحي سوى أبياتِ شعرٍ

إذا خرجتْ خلتْ أيّامُ شاعرْ

فتُنصِفها الملائكُ بالغناءِ

ولكنّ الملاكَ بلا مشاعرْ

فتبقى تحتَ سبعٍ في انتظارِ

عباقرةِ الأوائلِ في الأواخرْ

وتصبرُ ثم تجعلُ عن عكاظٍ

تفتّشُ في خواءٍ دونَ آخرْ

كصادٍ يطلبُ الماءَ ببيدٍ

بها الماءُ بجوفِ الأرْضِ غائِرْ

إلى أنْ يأذنَ اللهُ فتمضيْ

إلى حيثُ القريضُ سلاحُ ثائرْ

وفرجةُ ضائقٍ وغِياثُ صادٍ

ورقيةُ مارضٍ وكفافُ ضائرْ

وصولةُ فارسٍ ونشيدُ حربٍ

ونشوةُ ظافرٍ وخطابُ آمرْ

وحكمةُ شائبٍ وعلومُ حبْرٍ

ومتعةُ سامرٍ وفنونُ ساحرْ

ولهفةُ عاشقٍ ورثاءُ خلٍّ

ونجمةُ ساهرٍ ودموعُ حائرْ

وتوبةُ تائبِ وكساءُ بيتٍ

وسجدةُ ساجدٍ ورداءُ زائرْ

وتقليدٌ وتجديدٌ وبعثٌ

وتاريخٌ ومجدٌ ومآثرْ

وإنسانٌ ومنهاجٌ وفكرٌ

وعزٌّ وانتماءٌ ومفاخرْ

فإن لاحَ عكاظُ هوتْ عليهِ

كما يَهْويْ على الينبوعِ طائرْ

فتشربُ ثمّ تُسقِي من قريضٍ

زلالٍ مثلما ماءُ المَواطرْ

وليت الوُلْدَ كالآباءِ ذوقاً

وليتَ اليومَ كالأمسِ المغادرْ

وليت الحيَّ حرٌّ كالخيالِ

أوِ الحُلْمِ أوِ الوهْمِ المُسافرْ

وإنّي ميّتٌ لكنّ موتيْ

أُريدَ لهُ التفرّقَ في دوائرْ

فأيّ البحرِ ليس لهُ نصيبٌ

من الرّوحِ وأيّ البحرِ هاجرْ!

فميتةُ بارحيْ حظُّ الطويلِ

وأمّا اليومَ فالمحْظوظُ وافِرْ

وروحي إنّما نهرٌ بفيضٍ

وغيضٍ ماؤهُ للبحْرِ سائرْ

ولكنّ بقاءَ النّهرِ رهنٌ

بماءٍ أُسُّهُ المزْنُ الطّواهرْ

فما الحالُ إذا قستِ الحياةُ

و ضنّتْ بالمثيراتِ الثّوائرْ

فعلّك تدركينَ الآن أنّيْ

قريضٌ لا نديدَ لهُ بحاضرْ

فعندي أنّ بيتاً قد شقانِيْ

بما جرَّ عليّ منَ الفواقِرْ

أعزُّ عليّ منْ جسَدٍ خذولٍ

وعُمْرٍ إنْ يطُلْ ترْبُ الجرائرْ

ألا إنّ الحياةَ إلى زوالٍ

ويبقىْ البيتُ بينَ النّاسِ دائرْ

ومن عينينِ لولاها لما ضلْ

لتِ العينُ الطريقَ إلى المقابرْ

ومنْ أهلٍ وقدْ تمّوا خلاقاً

ومن نسبٍ يُعدُّ منَ المفاخرْ

ومنْ خُمْسٍ علىْ ورقٍ وعُشرٍ

على الأرْضِ تلقّطُهُ النّواقرْ

ألا إنّ فلسطينَ كتابٌ

سمَاويٌّ فلا يقربْهُ كافرْ

وممّا في الترابِ مِنَ الكنوزِ

وما تخفيْ السّماءُ منَ الظواهرْ

وما ارْتدتِ النّساءُ منَ الحُليّ

وما اعْتمرَ الشّيوخُ منَ العمَائرْ

وما نَحَتَ الجبابرُ من قصورٍ

وما لبسَ الأكاسِرُ منْ أساورْ

وما ابتدعَ العوارفُ منْ علومٍ

وما قالَ الفلاسفةُ الأكابرْ

لذا لنْ تلتَقيْ اسمِي في كتابِ

الأناشيدِ لوُلْدٍ بعْدُ قاصِرْ

ولا فيْ مُحتوى كُتُبِ الغِناءِ

أو الشّعْرِ أو الفنّ المعاصِرْ

ولنْ تجدِي فقيهاً يربطُ اسمي

ببيتٍ ليْ رواهُ علَى المنابرْ

ويوم يشاعُ أنْ قد تمَّ موتِيْ

سينبشُ سِيرتي عُمْيُ البصَائرْ

ويقلقُ راحَتي مرْضى القلوبِ

برأيٍ أصلهُ الغربُ المُكابرْ

ألا إنّ تليدَ المجدِ فخرُ

الرجالِ به يُذلُّ ذوو الضفائرْ

فإن شئْتِ الرجوعَ إليّ ميْتا

فلنْ تجدِي ليَ اسْماً في المَقابرْ

ولكنْ فتّشي عنّي بقبرٍ

عليهِ ليس إلّا ” قبرُ عابرْ”

فآخرُ صيحةٍ للحقّ شعْري

بوقتٍ ما لحقٍّ فيه ناصِرْ

وآخرُ وشوشاتِ الحسْنِ كان

بوقتٍ فيه حظُّ الحسنِ عاثرْ

فإيّاك وعينيكِ إذا ما

أردتِ الخوضَ في تفسيرِ شاعرْ