بين يديك أيها العالم

فلتأتِ إليَّ الآن

فلتأتِ إليَّ الآن

الباب مفتوح والنافذة مفتوحة

وكل ما هو لي

وكل ما هو ليس لي

وكل ما رأيته وعشته وانتظرته

ينتظرك الآن:

المائدة والسرير والضوء ورائحة جسدي

العشب والأسماك والأزهار وقلبي

كل شيء ينتظرك

كل شيء ينتظرك

فلتأتِ إليَّ الآن

إنَّ الزمن لا يتغيَّر أبدًا

إنَّ الزمن لم يتغيَّر قط

فالصيف كالخريف

والسبت يشبه الأحد والأربعاء

أمَّا الذي تغيَّر دونما انقطاع

فهو نحن

نحن الذين نذهب إلى الحروب والمصانع والمراعي

ونبتكر كل ما له علاقة بنا:

الرصاص والخبز

السجون والحريَّة

السجائر وأقلام الرصاص

السكاكين والورق والأغاني

الألعاب والقيود والمبيدات الحشريَّة

إنَّنا نفعل كلّ ما نستطيع

بين يديك أيُّها العالم

بين يديك أيُّها العالم

دمي يسيل الآن

يسيل وأراه

يسيل ويتبعثر ويتشابك ويفترق

ينحني وينكسر ويميل يسارًا ويمينًا

إنَّهُ دمي أيُّها العالم

دمي الصامت الثرثار

الذي يرسم بنفسه صورتي الشخصيَّة

ووجه من أحبُّ وأكره

بين يديك أيُّها العالم

متدفِّق ومنطوٍ

بعيد وقريب

أتنقَّل من شارع إلى جدار

ومن صديق إلى قاتل

ومن أغنية إلى غبار

أتنقَّل وأتنقَّل

حاملاً خضاري وقمحي وكراريسي

بنادقي وزهوري وفراغي

دونما راحة ودونما تعب

ذلك أنَّني أعيش لأتساءل

أو أتساءل لأعيش:

ما الذي فعلت بنفسك يا هاملت؟

وما الذي تنتظرينه يا بنلوب؟

وماذا أعطت لك الحياة يا سقراط؟

ولم تثير رعبنا يا هيتشكوك؟

وأنتَ يا أبي…

أيُّها السكِّير، المريض، المقامر

أيُّها الحالم، الطيِّب، المسكين

أما زلت تتناول عشاءك المعتاد

بيضتين مسلوقتين

قليلاً من الزبدة

نصف رغيف

وهمومًا كاملة

وأنتِ يا أمِّي…

أيَّتها الشجرة التي لم تثمر غيري

أما زلتِ تنامين باكرًا

عاريةً إلاَّ من أوراقك الخضراء

الخضراء دائمًا بين يدي العالم؟.

بين يديك أيُّها العالم:

النافذة مشرعة وأنا وحيد

(من يأتي إلى من)

الأضواء ساطعة وأنا معتم

(من يضيئني من)

السفر… السفر… السفر…

هو ما أريد

الحريَّة… الحريَّة… الحريَّة

هي ما أطلب

أن أضمَّ المرأة

وأسحب القمر من أنفه إلى غرفتي

أن أرقص وأرقص وأرقص

حتَّى تتعب الموسيقى

أن أحملك أيُّها العالم

أهدهدك كطفل

وأزعل منك إذا أخطأت في الحساب

أن آكل وأعمل وأشرب وأتنفَّس

كما يفعل المبدع الصغير الكبير

الذي يزرع القمح بين الصخرة والصخرة

ويترك للطفل حريَّة الحركة والبكاء

المبدع الصغير الكبير

الذي يشبك يديه خلف ظهره

في العطلات الأسبوعيَّة

سعيدًا ببطاله النظيف

وذقنه الحليقة

إبنك أيُّها العالم

إبنك الطويل، القصير، البدين، النحيل، الذكر، الأنثى، العاجز، العطشان، الخائف، المضيء، المتردِّد، المباشر، الصادق، البسيط، المغامر، المجنون…

إبنك الذي من سهول وماعز ومطر كثيف

الضائع بين سبارتاكوس ونيرون

بين يسوع ويهوذا

الذي جرَّبَ كل شيء

ولم يتوصَّل إلى شيء

لأنَّهُ…

لأنَّهُ ما زال بين يديك أيُّها العالم.

… وأنا أنتظرك الآن

حزينًا كرسالة لم تصل

ووحيدًا كفزَّاعة عصافير

أنتظرك وأعرف أنَّك معي

رجلاً وامرأة وطفلاً

طيرًا وموسيقى وغابة وطريقًا طويلاً…

وسواء كنت في العمل أو البيت أو الشارع

أراك وأعرفك

أفتقدك وأسأل عنك

وأينما ذهبت سأتبعك

وكُلَّما التقيتك سأهرب منك

لكنَّني دائمًا… دائمًا

أفتح لك الباب وقلبي

وأقول تعال

قبّلني قبّلني قبّلني

قبّلني قبّلني قبّلني

هذه أصابعي وهاتان عيناي

هذه أظافري وأنيابي

وهذا هو جسدي

دافئًا وبردان ومحمومًا

وهذه هي نفسي

فارغة إلاَّ من الصخور والرمال

وممتلئة بكل شيء

وكل شيء لا يستطيع احتواءها

حتَّى أنت…

حتَّى أنت أيُّها العالم.

بين يديك أيُّها العالم

أعدُّ حروبي وهزائمي وانتصاراتي

وأسجِّلُ أسماء الجلاَّدين والضحايا

أسماء العشاق والفاشلين والمغامرين والمضطهَدين

ولا أنسى إسمي

إسمي الوحيد، المتكرِّر، المتفرِّد

الذي يعرفه الجميع ولا يعرفه أحد

محمود أو الياس أو مريم

رياض أو سوزان أو عادل…

ما الذي يهمّني من ذلك؟

فالجميع يحبُّون ويكرهون ويزورون المقابر

(على الأقلّ مرَّة واحدة بعد عمر مديد)

والجميع عندما ينامون

ينامون بطريقة واحدة ومختلفة

ولذلك لا نختلف في شيء

سوى أن بعضنا ينام بعين مفتوحة

وبعضنا لا ينام أبدًا

وبعضنا ينام دائمًا:

في قبر، أو حانة، أو وظيفة

في صحيفة، أو كتاب، أو متحف

والجميع الجميع

يملكون الأيدي والرقاب والصدور والذكريات

غير أنَّ بعضهم لا يملكون القلب

وبعضهم قلوبهم سوداء

وبعضهم رموا قلوبهم في البالوعات واستراحوا

استراحوا بين يديك أيُّها العالم

بين يديك أيُّها العالم

أدور وأدور وأدور

كدواليب الحظ

ثمَّ أتوقَّف على رقم

لا علاقة لي به

وسواء كنت ورقة يانصيب خاسرة أو رابحة

وسواء كنت رقمًا أحاديًّا أو مزدوجًا

فالحصان الخاسر لن ينال الجائزة

والحصان الرابح لن يجني سوى القليل أو الكثير من التبن والذرة

أمَّا الرابح الوحيد

فهو الذي يملك الحصان ويقوده ويوجِّهه

الرابح الوحيد

صاحب المهماز والسوط والقبضتين الفولاذيَّتين

وأنا ملكك أيُّها العالم

أنا جوادك الخاسر

ونحن ملكك أيُّها العالم

نحن جيادك الخاسرة

ننطلق وننطلق وننطلق

وأخيرًا إلى الاسطبلات نعود.

بين يديك أيُّها العالم

المدراس = القتل

الأصدقاء = النميمة

الثقافة = الكذب

التاريخ = التكرار

والدولة هي الدولة

بين يديك أيُّها العالم

نحن لسنا سعداء

بين يديك أيُّها العالم

نحن لسنا تعساء

نحن لا شيء البتَّة

هذا ما يقوله النسيم

وهذا ما تقوله أمريكا

بين يديك أيُّها العالم

نردِّد الكلمات

الحريَّة… الحريَّة… الحريَّة

الخبز… الخبز… الخبز

الحب… الحب… الحب

إنَّنا نردِّد الكلمات

منذ توت عنخ آمون

وحتَّى آخر جثَّة في بيروت الشرقيَّة

الخبز أيَّتُها الأمم المتَّحدة والمتفرِّقة

الحب أيُّها الله

الحريَّة أيَّتُها الأصفاد والأسلاك الشائكة

والحياة… الحياة

بين يديك أيُّها العالم

شباط – 1980