البريد الليلي

هذه الرسالةُ :  النصُّ ، وصلتني البارحةَ . كنتُ عائداً من مشرب القـريةِ

بعدَ أن أدّيتُ طقســي المســائيّ باحتسـاءِ كأسـي الكبيـــرة

من البيرة السوداء . عند أُولــى درْجات السُّــلَّــمِ  ، في مـنزلي ،

وجدتُ الـمُغَـلَّـفَ ، وكان شِــبـه مدعوكٍ . كان الأمرُ مفاجِـئاً

إذْ ليس من بريدٍ في مثل هذه الساعة ، كما أن الـمغلّفَ كان بلا طوابـعَ

أو أختامٍ . قلتُ : البريدُ أمرٌ غامضٌ عبر التاريخ . سككُ البريدِ ( كــما

سـمّـاها الفرزدقُ ) كانت للملِك . للخليفــة . لِـظِلِّ اللــــه .

إذاً ، ثـمّـتَ ما يصلُ بين البريدِ واللامعقولِ خُذْ هذه الرسالةَ مثلاً

مَـن كتبــها ؟  المـرسِـلُ لم يذكر اســمَــه . كلّـفني المشقّةَ .

ومع قراءتي الرسالةَ  ، فهمتُ أنّ أُمّــةً كاملةً من الجــنِّ كانت في المتْنِ.

خمسةَ عشرَ قرناً من الجنونِ ! ما شأني أنا بهذا ؟ أنا  المترهِّبِ في منـزلٍ

ريفــيٍّ  ، في رَبْــضٍ من أرباضِ لندنَ ؟ النرجسُ البرِّيُّ مبكرٌ جـداً ،

وأســرابُ السنونو أيضاً . المـطرُ المنهمرُ دوماً ينهمرُ دوماً  ، وأنا شِـبهُ

دائخٍ . قلتُ : فَلأَمضِ مع الرسالة . امضِ ، فرُبّـتَـما هدأتْ هواجسُكَ .

على أي حالٍ .  أنا لم أتوقّـفْ في قراءتي ، لأتَـثَـبّـتَ من النصوصِ ،

وأدقِّـقَ في روايـتِــها  . خُذي عَـبَـراتِ عينِكِ عن زَماعــــي

وصونِـي ما أذَلْـتِ من القناعِ . أآلِـفةَ النحيبِ كم افتراقٍ أجَـدَّ فكانَ

داعيةَ اجتماع . وليستْ فرحةُ الأوباتِ إلاّ لموقوفٍ على ترَحِ الـــوداعِ .

أُسـائلُها أيَّ الـمَـواطنِ حَـلَّتِ ، وأيَّ بلادٍ أوطأتْـها وأيَّــةِ ؟

وماذا عليها لو أشارتْ فودّعتْ إلينا بأطرافِ البنانِ وأومَـتِ . ولي دونكم

أهلونَ : سِـيْـدٌ عُملَّـسٌ ، وأرقطُ زهلولٌ وعيفاءُ جَـيهَـلُ . تمنيتُ أني

بين روضٍ ومنهلٍ مع الوحشِ لا مِـصراً حللتُ ولا كَــفْـراً . ولَـمّـا

قضينا من مِـنىً كلَّ حاجةٍ ومَسَّـحَ بالأركانِ مِـن هو ماسحُ ، وشُدّتْ

على حُدْبِ الـمَـطايا رِحالُـنا  ، ولم يعرف الغادي الذي هو رائحُ ،

أخذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بيــننـا ، وسالتْ بأعناقِ الـمَـطيِّ الأباطحُ .

لقد زِدتَ أوضاحي امتداداً ولم أكُـنْ بهيماً ولا أرضى من الأرضِ مَـجْـهَلا

ولكنْ أيادٍ صادفَـتْـني جِـسـامُـها أغرَّ فأوفتْ بي أغرَّ مُـحَـجَّـلا .

إذا الـملِـكُ الجبّــارُ صَـعَّـرَ خدَّهُ مشَينا إليه بالســــــيوفِ .

كأنكَ لم تسـمَعْ بقتلِ مُـتَـوَّجٍ مـليكٍ ، ولم تسـمَعْ .  رمى واتَّــقى

رميي  ، ومِـن دونِ ما اتّـقى هوىً . ما كان ضرَّكَ لو عفوتَ وربّـما يعفـو

الفتى وهو الـمَـغِـيظُ الـمُـحْـنَقُ  . ظلّـتْ سيــوفُ بني أبيه تنوشُـهُ

لِـلّـهِ أعراضٌ هناكَ تُـمَـزِّقُ ! لَـربّـيـتُـهُ حتى إذا آضَ شَـيظَـمــاً

أخا الفحلِ واستغنى عن المسحِ شــاربُـهْ ، تَـغَـمَّـطَ حقي ظالماً ولوى يدي

لوى يـدَهُ اللهُ الذي هو غالبُـهْ . ربّـيـتُـهُ مثلَ . حتى إذا آضَ كالفُـحّـالِ

شــذَّبَــهُ أبّـارُهُ  ونفى عن متـنِـهِ الـكَـرَبا  ، أضحى يمزِّقُ أثوابـي

يؤدِّبُــني .  أبعدَ شـيبيَ عندي يبتغي الأدبا؟ أعائشُ : لولا أنني كنتُ طاوياً ثلاثاً

لألقيتُ ابنَ أُمِّكِ هالكا  ، غداةَ ينادي والرماحُ تنوشُـهُ كوقع الصياصي ، اقتلوني

ومالِـكا ! قومي همو قتلوا أُمَـيمَ أخي ، فإذا رميتُ أصابَـني ســهمــي

ولَـئِـنْ عفَـوتُ لأَعْـفُـوَنْ جللاً ،  ولَـئِنْ قسوتُ لأُوهِـنَنْ عَـظْـمي !

إليكِ ، إليكِ يا بغدادُ عنِّـي

فإني لستُ منكِ ولستِ منِّـي

ولكني وإنْ كـثُـرَ التجنِّـي

يَـعزُّ عليَّ يابغدادُ أني ..

فلِـمَـنْ تغنِّـي والمقاهي أغلقتْ أبوابَــها ؟

………..

مطرْ

مطرْ

وفي العراق جوعْ .