أقل عذابي ما تصاب مقاتلي

أَقَلُّ عَذابي ما تَصابَ مُقاتِلي

وَأَضيعُ نَصحي ما تَقولُ عَواذِلي

وَاَسعَرُ ناري ما تَكُن جَوانِحي

وَأَهدَأُ حالي ما تَهيجُ بَلابِلي

تَفيضُ دُموعي كُلَّما لاحَ بارِقُ

وَتَطرَبُ مِن مُرِّ النَسيمِ شَمائِلي

وَأَنّى لَتَشجوني الحَمائشمُ أَن شَدَّت

عَلى عَذَباتِ البانِ عِندَ الأَصائِلِ

سَواجِعَ بِالشَكوى يَنُحنَ عَلى النَوى

نَواعِمَ لا يَعرِفنَ غَيرَ الخَمائِلِ

يُبَكّينَ أَوقاتَ الصَفاءِ الَّتي خَلَت

وَأَبكى لِأَيّامِ الصَباءِ الرَواحِلِ

وَأَنّى لِصَبٍّ لَم أَزَل أَندُبُ اللِقا

بِدَمعٍ طَويلِ الذَيلِ هامَ وَهامِلِ

حَنيني إِلى عَهدِ الوِصالِ وَأَهلِهِ

وَسُهدي عَلى هَجرِ الخَليطِ المُزايِلِ

وَلَكِنَّهُ قَد رَمَّثَ الحُبَّ مُهجَتي

وَرَوَّقَ أَعناتَ الغَرامِ مَناهِلي

تَفَرَّدَت في طَبعٍ إِلى الحُبِّ نازِعِ

وَقَلبٌ عَلى حُكمِ الصَبابَةِ نازِلِ

فَيُطرِبُني هَمسُ القَصائِرِ في الحِمى

وَيُعجِبُني في الرَملِ هَدى المُطافِلِ

وَأَهوى لِحاظَ العَينِ مَعسولَةَ اللَمى

وَأَعشَقُ رَبّاتِ الخُصورِ النَواحِلِ

وَأَختالُ في غِيِّ الهَوى غَيرَ عابِئِ

وَأَمرَحُ في بَذَخِ الصِبا غَيرَ سائِلِ

وَأَنّى لَيَجري في جِناني هَوى الحِمى

وَحُبُ الدُمى مَجرى الدِما في مَفاصِلي

فَيا ظَبيَةَ الكُثبانِ حُسنَكَ فاتَني

وَيا غادَةَ الجَرعاءِ حُبَّكَ قاتِلي

وَيا هَذِهِ الأَعطافُ رُمحُكَ طاعِني

وَيا هَذِهِ الأَلحاظُ سِحرَكَ بابِلي

وَيا عاذِلي أَقصَرَ فَلَستَ بَوازِعي

أَطَلتَ بِتَعنيفي عَلى غَيرِ طائِلِ

سَأَمنَعُ عَن عَيني لِأَجلِكَ نَومَها

وَأَقسَمَ ما تَبكيهِ بَينَ المَنازِلِ

وَأَجرى بِمِضمارِ الهَوى مُتَهَتِّكاً

أُجَرِّرُ في شَوطي فُضولَ الغَلائِلِ

لِأَعشَقَ حَتّى لَيسَ لي مِن مُعادِلِ

وَأَكلَفَ حَتّى لَيسَ ليب مِن مُماثِلِ

وَأَرهَنُ هَذا القَلبَ لِلغَيدِ وَالمَهى

وَأَجعَلُ العَقلَ مَهرَ العَقائِلِ

وَما الحُبُّ إِلّا خَلَقَ كُلَّ مَهذَبِ

وَما الوَجدُ إِلّا شَأنَ كُلِّ حَلاحِلِ

وَما الحُسنُ إِلّا دونَ كُلِّ عَرينِهِ

وَما الوَصلُ إِلّا في مَجالِ الغَوائِلِ

إِذاً كُلُّ طَرفٍ ذابِلٍ عِندَ ذابِلِ

وَكُلُّ قَوامٍ عاسِلٍ دونَ عاسِلِ

تَجولُ جِيادَ الخَيلِ في كُلِّ عَرصَةٍ

وَأَنضى إِلَيها كُلُّ يَومٍ رَواحِلي

وَتَحمي سُيوفَ الهِندِ عَن كُلِّ كِلَّةٍ

لَقَد طالَما عَلِقتُ فيها حَمائِلي

أَزورُ خِيامَ الرَبعِ غَيرَ موارِبٍ

وَأَغشى دِيارَ الحَيِّ غَيرَ مُخاتِلِ

وَأَنّي مِنَ الشَعبِ الَّذينَ أَذا سَعوا

يَجلونَ قَدراً عَنِ حَؤولِ الحَوائِلِ

أَلَم تَرَهُم بِالأَمسِ حَزماً وَقُوَّةً

مَفاعيلُهُم في الأَمرِ قَبلَ المُقاوِلِ

فَما آجَلُ يَرجونَهُ غَيرَ عاجِلِ

وَما عاجِلٌ يَأبونَهُ غَيرَ آجِلِ

لَقَد خَيَّبوا آمالَ كُلِّ مُعارِضٍ

وَقَد زَلزَلوا أَقدامَ كُلِّ مَنازِلِ

بِشَقرِ سَراحيبِ وَسُمرِ ذَوابِلِ

وَبيضُ أَصاليتٌ وَصُفرٌ عَياطِلِ

غَداةَ بِلادَ الناسِ شَرقاً وَمَغرِباً

أَطلوا عَلى أَقطارِها بِالجَحافِلِ

لَقَد دَكدَكوا الأَجبالَ فيها وَشَيَّدوا

سَواهِنَ شَمّا مِن غُبارِ القَساطِلِ

سَقوا تُربَةَ الأَرضَينِ سَهلاً وَمَرقَباً

مِنَ الدَمِ بِالأَنهارِ لا بالجَداوِلِ

أَطاروا قُلوبَ الكاشِحينَ وَاِرقَصوا

فَرائِصَهُم مِن كُلِّ حافٍ وَناعِلِ

وَقَد سَحَقوا بَطشاً رُؤوسَ عِداتِهِم

وَقَد نَزَّلوهُم مِن رُؤوسِ المَعاقِلِ

فَما زالَ مِنهُم باخِعاً كُلَّ عامِلِ

وَما زالَ فيهِم عامِلاً كُلَّ عامِلِ

إِلى أَن وَلّوا بِالسَيفِ أَقصى بِلادِهِم

فَلَم يَدعوا فيها مَجالاً لِجائِلِ

فَهُم خَيرُ مَن في الأَرضِ سَلّوا صَوارِماً

وَقادوا عِتاقَ الخَيلِ قَبَّ الأَياطِلِ

وَهُم خَيرُ مَن ضَمّوا اليَراعَ إِلى القَنا

وَهُم خَيرُ حَدٍّ بَينَ حَقٍّ وَباطِلِ

لَقَد نَشَروا العِلمَ الحَقيقِيَّ في الوَرى

عَلى حينِ تَغلي الحَربَ غَليَ المَراجِلِ

وَقَد خَطَبوا في الأَرضِ بِالحَقِّ مَن عَلى

مَنابِرِ عِزٍّ مِن مُتونِ الصَواهِلِ

أَزالوا سَفاهاتِ الشُعوبِ وَقابَلوا

سَفاسِفَهُم بِالمَكرُماتِ الجَلائِلِ

وَشادوا عَلى تِلكَ الرُسومُ حَضارَةً

أُقيمَت عَلى أُسِّ التُقى وَالفَضائِلِ

فَأَصبَحَ مِنهُم عامِراً كُلَّ غامِرِ

وَأَضحى لَدَيهِم مَمرَعاً كُلُّ قاحِلِ

زَها وَنَما نَبتُ الوَشيجِ بِأَرضِهِم

وَفي مُدنِهِم زادَت فُنونُ الصَياقِلِ

أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم

وَإِلّا فَهُم في الأَرضِ خَيرُ القَبائِلِ

رِجالٌ لَدَيهِم راقَ جَمعُ مَناقِبِ

عَفافٌ وَأَقدامٌ وَحَزمٌ وَنائِلُ

بَدورٌ بِآفاقِ الزَمانِ أَوافِلٌ

نُحيبي عَلى تِلكَ البُدورِ الأَوافِلِ

أَقاموا زَماناً ثُمَّ مَرَّ عَلَيهِم

عَتوا الدَواهي وَاللَيالي الدَوائِلِ

زَماناً قَضوهُ بِالعَلاءِ وَلَم تَكُن

لَيالي عَلاهُم بِاللَيالي القَلائِلِ

كَذَلِكَ قَد كانَت أَوائِلُ قَومِنا

أَلا لَيتَنا نَبني بِناءَ الأَوائِلِ

وَنُحيي رُسوماً غادَروا لِاِعتِبارِنا

فَأَصبَحَ مِنها دارِساً كُلَّ ماثِلِ

أَما نَحنُ مَن حازوا الغِنى بِعُقولِهِم

وَجادوا عَلى كُلِّ الوَرى بِالفَواضِلِ

وَقَد كانَ مِنّا كُلُّ نَدبٍ مَجرَبُ

بِنورِ الحَجى جالٍ دَياجي المَعاضِلِ

وَكُلُّ هَمّامٍ مُشَبَّعِ الحِجرِ راشِدٌ

مُوَفَّقُ آراءٍ دَليلَ مَجاهِلِ

وَكُلُّ إِمامٍ كَالغَزالي وَهوَ مِن

إِذا قالَ لَم يَترُك مَجالاً لِقائِلِ

وَكُلُّ حَكيمٍ كَالرَئيسِ الَّذي جَرى

وَخَلى أَرِسطو خَلفَهُ بِمَراحِلِ

وَكُلُّ أَريبٍ كَاِبنِ رُشدٍ وَمَن عَلى

هَداهُ وَكَالرازي نَدُّ الأَوائِلِ

فَبِالشَرقِ مِنّا كَالرَشيدِ وَقَومُهُ

وَبِالغَربِ مِنّا ناصِرٌ بَعدَ داخِلِ

وَلا تَنسَ في وادي الفُراتِ وَجَلَّقِ

وَفي مِصرَ آثارُ الصَلاحِ وَعادِلِ

وَلا سادَةً مِنهُم مُحَمَّدٌ جاعِلٌ

بِقَبضَتِهِ البَرَّينِ دونَ مُطاوِلِ

لَعَمري إِذا نَدري الأُمورَ فَإِنَّما

زَوالُ العَنا بَينَ القَنا وَالقَنابِلِ

وَغَرَّ العُلى فَوقَ العَوالي دَوامِياً

وَنَيلُ المُنى دونَ المَنى وَالمَناصِلِ

لَنِعمَ نِداءَ الحَربِ في كُلِّ أُمَّةٍ

أَناخَ عَلَيها دَهرَها بِالكَلاكِلِ

لِيَنشُرَ مِن أَكفانِهِ كُلَّ مَيتِ

وَيوقِظُ مَن تَهويمِهِ كُلَّ غافِلِ

فَذَلِكَ أَمرٌ لا يَزالُ مُجَدَّداً

نُشاهِدهُ فَليَذكُرنَ كُلَّ ذاهِلِ

إِذا ضاقَ عَنهُ النَثرُ فَالبَحرُ واسِعُ

بِنا وَالقَوافي رافِداتُ الفَواصِلِ